التحرير
عمرو حسنى
أسلمة السياسة وأسلمة الحرب
الحكم الأخير الذى أصدرته محكمة القضاء الإدارى برفض دعوى حل الأحزاب الدينية ربما يعيد لنا أحزابًا كالحرية والعدالة، والوسط، والفضيلة، وغيرهما إلى ساحة العمل السياسى من جديد.

هذا الحكم قد يعود بنا إلى المربع الأول فى لعبة تديين السياسة التى قادتنا إليها لجنة صبحى صالح وطارق البشرى بعد أن كلفهما المجلس العسكرى، فى صفقة تمت برعاية أمريكية، بالقيام بتعديلات دستورية فور إطاحة ثورة يناير بمبارك لتقنين جلوس بديله الإخوانى على كرسى الحكم. وقتها تم اعتماد تلك التعديلات بعد الموافقة عليها فى استفتاء شعبى أدارته التيارات السياسية الدينية كأنه معركة حربية بين الإسلام والإلحاد، واستخدمت فيها منابر المساجد والرشاوى التموينية لشراء أصوات الريف الفقير والعشوائيات، فيما أطلقوا عليه غزوة الصناديق.

الأمر العجيب والمثير للسخرية أن حاملى صكوك الوطنية الآن، ممن يتهمون كل الأصوات التى تدعو إلى وقف عسكرة الدولة بالخيانة والعمالة، يرتعبون فى نفس الوقت من تصاعد النبرة السلفية التى رعتها سلطة تحالف يونيو، ولم يرتفع وعيهم حتى هذه اللحظة إلى فهم حقيقة أن تديين السياسة حدث بمباركة جنرالات المجلس العسكرى مرتين خلال الأعوام الخمسة الماضية فى موقفين كاشفين. أولهما تكليف لجنة صبحى والبشرى بدسترة الجماعات الدينية تحت لافتات تقنن وجودها كأحزاب شرعية، وثانيهما التعامى عن خطورة استمرار حزب النور كشريك أساسى مسموع الكلمة فى الحياة السياسية بعد الثلاثين من يونيو.

النقطة الثانية بالتحديد قد تكون من العوامل التى دعت محكمة القضاء الإدارى إلى إصدار حكمها منذ أيام برفض دعوى حل الأحزاب الدينية، الذى قد يمنح تيارات التأسلم السياسى المتشددة قبلة الحياة لتعود إلى ممارسة دورها من جديد فى هدم ما تبقى من دعائم دولة المواطنة المدنية.

توقيتات تداعى الأحداث لا تأتى جزافًا. هذه كلمة نقولها لكل من يتعاملون مع السياسة بمنطق المصادفات. النموذج الباكستانى للعسكرية المتأسلمة ربما يكون هو الباترون الجاهز الذى سيتم استخدامه لتفصيل نموذج جديد للحكم فى مصر. هل تذكرون التعبير الذى أطلقه وزير الدفاع فى ذكرى المولد النبوى المنصرم فى برقية أرسلها لرئيس الجمهورية واصفًا جيشنا الوطنى بأنه جيش يقتدى أبناؤه ويهتدون بالرسالة المحمدية؟ وقتها قلنا إن تديين الجيوش هو أول مسمار فى نعش دولة المواطنة المدنية الحديثة، التى لا بديل عنها للوصول إلى مجتمع ناهض يجعلنا نلحق بقطار العدالة الاجتماعية فى دولة دستورية تساوى بين أبنائها فى الحقوق والواجبات، ولا تفتح المجال للتمايز الدينى فيما بينهم. فهل استمع لنا أحد؟



السيناريوهات المعدة لحماية المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط تدور كلها حول وجود نظم حكم تابعة تدين لها بالولاء وتضمن أمن إسرائيل. عندما عجز نظام مبارك عن تحقيق الحد الأدنى المقبول من الرضا الشعبى لم تمانع أمريكا من التضحية به واللعب على ورقة تصعيد نموذج إسلامى معتدل ليتولى السلطة، طالما أنه سيعمل على تنفيذ السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط، وهذا ما قام به الإخوان بالفعل بعد نجاح الضغوط الأمريكية التى أدت لقيام المجلس العسكرى بتمهيد الطريق لهم بلجنة التعديلات الدستورية المشبوهة، ووصولاً إلى تسليمهم السلطة من تحت ضروس الجنرالات فى سيناريو كان يحمل الكثير من الثغرات والأسئلة التى لم تتم الإجابة عليها حتى هذه اللحظة. نظام الإخوان أبدى حسن نياته تجاه الغرب فى مواقف كاشفة، كان أوضحها الضغط على حماس للموافقة على وثيقة تدينها بصورة دامغة كمعتدية على أمن إسرائيل أكثر مما تدين إسرائيل كسلطة احتلال!

ذلك النظام الإخوانى لم يسقط فقط لسوء إدارته الفادح للدولة المصرية وفقر خياله الذى جعله يحاول تسيير أمورها بنفس الطريقة المباركية بحذافيرها، فى محاولة لخلق ديكتاتورية دينية أثبتت فشلها كنظام تجاوزته الطموحات الإنسانية، ولكن أيضًا كنتيجة لتضافر جهود مؤسسات الدولة العجوز لتحقيق حلم العودة للسلطة على أشلاء الثوار والإخوان بمساعدة الملكيات الخليجية التى تخشى على عروشها من أنظمة راديكالية دينية قد تحكم مصر ويثير وجودها صراعاتهم الداخلية الكامنة ويؤدى لانفجارها. قلنا إن التوقيتات محسوبة والمصادفات يصعب قبولها فى لعبة إدارة الصراعات السياسية. فهل يكون نموذج العسكرية الباكستانية المتأسلمة المتهادنة هو البديل الذى تعده أمريكا لكى تفرضه بموافقة خليجية، ليحل محل الدولة المباركية العجوز التى أثبتت فشلها مرتين؟

ربما تتم تجارب تديين الجيوش لجعلها ظهيرًا عسكريًّا للقوى الرجعية، للمحافظة على مصالحهما المشتركة تحت راية العقيدة التى تضع المعارضين فى مرمى نيران الاتهام بالكفر والزندقة. أو ربما تتم لإيجاد المبرر لتوريطها فى حروب عقائدية بدعوى الدفاع عن الإسلام وحمايته، من دعاة التشيع على سبيل المثال، بما يرفع شبهة الحرب بالوكالة خارج الحدود.

لعبة اختطاف التورتة بأكملها التى تتأرجح دائمًا بين فريق تديين الدولة وفريق عسكرتها تسمح بجميع الاحتمالات، فى ظل غياب بديل مدنى يحظى بدعم شعبى جارف، وقد تؤدى إلى أسلمة الحرب بعد أن قامت بأسلمة السياسة، خصوصًا عندما تعلو بعض الأصوات الخليجية مطالبة بمعرفة أين ذهبت النقود التى دعموا بها مصر بالتزامن مع سخط سعودى لاعتقادها أن فشلها فى اليمن حدث بسبب عدم وجود قوات برية تحارب عنها بالوكالة.

أتمنى فشل ذلك السيناريو البغيض لأن مستقبل الأوطان أكبر بكثير من التشفى فى من يغمضون عيونهم ولا يرون مخاطر أسلمة الحرب فى ظل عسكرة الدولة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف