الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
بين تاريخ نكرهه.. وثقافة تكرهنا!
نحن نكره تاريخنا.. ولهذا نكره أنفسنا.. والذين يكرهون أنفسهم لا يستطيعون الدفاع عن حقوقهم.. يأكلون بالطبع ويتناسلون، لكنهم يكتفون بالحصول على هذين الحقين بالقدر المتاح لكل منهم، ولو كان بسيطا متواضعا،
وينسون حقهم فى الحرية، لا يتذكرونه إلا فى هبات تتفجر ثم تتبخر، ينفسون بها عن أنفسهم ويعودون بعدها سيرتهم الأولي، كأن لم يكن شيء فهم يأكلون ويتناسلون وينسون حقهم فى الحرية، لأن الحرية ليست مطلبا جسديا ملحا، لا يملكون رده أو الصبر عليه، وإنما الحرية وعى وثقافة يعرف بها الإنسان نفسه، ويتمثل وجوده، ويتذكر تاريخه الذى لم يكن إلا سلسلة من التجارب والخبرات التى يزداد بها الوعي، ويتسع الأفق، وتتحرر الإرادة، وتتساقط القيود، ويصير بها الإنسان إنسانا.

ونحن أمة لها تاريخ عريق حافل، ولها حضارة شامخة باقية، فحقنا فى الحرية حق ثابت، لأن الذى يبنى هذه الحضارة الأصيلة، ويبدع هذا الإبداع الفريد، لا ينقصه دليل على أنه مؤهل جدير بالحرية، قادر على ممارستها مع نفسه ومع غيره.

لكننا لا نتمتع بهذا الحق لأننا لا نعرف تاريخنا على حقيقته، بل نحن نكره هذا التاريخ، ونتبرأ منه، ونصدق فيه ما يقوله الكارهون الحاقدون، فإن زعم هؤلاء أن تاريخنا لم يكن إلا طغيانا متصلا، وأننا كنا دائما راضين بهذا الطغيان، خاضعين ممتثلين له، قلنا وراءهم: آمين! خاصة وقد تحولت كراهيتهم لنا ولتاريخنا وحضارتنا إلى ثقافة أو عقيدة نتلقاها منهم، ونتبناها مثلهم، ونجد أنفسنا فى النهاية غرباء فى تاريخنا الذى نكرهه، وفى ثقافتنا التى تكرهنا!

>>>

نحن لا نتلقى تاريخنا من الوثائق الأصلية التى حفظتها الأجيال، والشهادات الموثقة التى وصل إليها المؤرخون، وقدموها للعالم ولا يزالون يقدمونها حتى الآن، وإنما نتلقاه من رجال الدين الذين يلتزمون فى أى موضوع يتحدثون فيه بما جاء عنه فى النصوص الدينية الموروثة، وبما يفهمونه هم من هذه النصوص، سواء اتفق مع الحقيقة التاريخة الثابتة.. أو لم يتفق، فإذا كانت النصوص الدينية هى المصدر الأول لثقافتنا التاريخية، وإذا كانت التوراة هى أول نص دينى يتحدث باستفاضة عن مصر، وعن المصريين، فمن الطبيعى أن يبدأ تاريخنا بمصرايم بن حام بن نوح كما تزعم التوراة، وهو زعم خاص بالعبرانيين الذين وجدوا بلادنا أرضا خضراء لا تشبه فى شيء الصحراء التى جاءوا منها، كما وجدوا دولة منظمة، وحضارة باذخة فأطلقوا عليها هذا الاسم الذى لم تكن تحمله من قبل «مصر»، ليميزوها عن غيرها من البلاد المحيطة بها، ذلك أن المصر فى العبرية والعربية وغيرهما من اللغات السامية هى الحد الفاصل الذى يتميز به مكان عن مكان آخر، وبما أن مصر أصبحت تحمل هذا الاسم، فقد اشتقوا منه اسم رجل زعموا أنه أول من سكنها ومنحها اسمه، أو أنها هى التى منحته اسمها، وهو مصرايم بن حام بن نوح، الذى لم نقرأ عنه شيئا فى البحوث التاريخية التى قام بها العلماء المختصون فى دراسة عصور ما قبل التاريخ فى مصر.

لكن التوراة لا تكتفى فى حديثها عن مصر بما قالت عن هذا السيد الذى سمته مصرايم بن حام بن نوح فى «سفر التكوين»، وإنما تواصل فى «سفر الخروج» و«اللاويين» و«العدد» فتتحدث عن إبراهيم وزوجته سارة، وهاجر «جارية سارة المصرية!»، وعن يوسف، وعن هجرة بنى إسرائيل لمصر بعد أن عصف بهم الجوع، وعن استبعاد المصريين لهم، وعن موسى وخروج بنى إسرائيل من مصر، وفى هذا الحديث المتواصل نرى ما كان يحمله هؤلاء البدو العبرانيون لنا من حقد محموم، وغل مسموم، وحسد وكراهية شديدة حولوها إلى ثقافة تلقاها المسيحيون والمسلمون، ونحن منهم، فلم نعد نرى فى مصر الفرعونية إلا أنها »بيت العبودية«، ولم نعد نرى فى حضارتها وحكومتها إلا الطغيان، يكفى أن نقرأ ما كتبه المقريزى عن مصر وعن المصريين، والمقريزى مصرى مثلنا، وكان مؤرخا مثقفا، وكان قاضيا وإماما، فماذا قال هذا الإمام المصرى عن بلاده وعن شعبه؟

يقول حضرته: إن الله تعالى لم خلق الأشياء، وجعل كل شيء لشيء، قال العقل: أنا لاحق بالشام.. فقالت الفتنة: وأنا معك! وقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك! وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك!

ويكاد كلام المقريزى أن يكون ترجمة حرفية لكلام التوراة، فكلامه عن خصب حسد، وكلامه عن ذل المصريين كراهية حولت تحضر الفلاحين المصريين إلى ذل وعبودية.

ويواصل المقريزى بذاءاته عن مصر فيقدم لنا رواية ينسبها إلى عبدالله بن عمر، جاء فيها أن الشيطان هبط العراق والشام فطرد منهما، وأما فى مصر فقد باض الشيطان وأفرخ، وفى رواية أخرى مما قدمه المقريزى عن مصر أن المكر عشرة أجزاء، تسعة فى القبط، وواحد فى سائر الناس! ويروى كعب الأحبار اليهودى أن شر النساء على وجه الأرض نساء مصر، وأن أرض مصر نجسة يطهرها النيل كل عام.

هكذا تلقينا تاريخنا فلم نعد نعرف أين نضع أنفسنا من هذا التاريخ، نتبرأ منه، أم ننتمى إليه؟ إذا تبرأنا منه فمن نكون عندئذ غزاة نسل غزاة كما يرنا بعضهم نفسه؟ وإذا انتمينا له فمن نكون؟ عبيد نسل عبيد؟ وسوف نظل فى الحالين غرباء فى بلادنا، نكره تاريخنا، ونكره أنفسنا، ونطرح عليها هذا السؤال المضلل الذى نصدق به ما تقوله التوراة فينا، نتجاهل السؤال الذى يجب أن نطرحه ونخرج به من هذه المتاهة، وهو: هل صحيح ما تقوله التوراة عنا؟ وهل يتفق مع ما تقوله الوثائق التاريخية الباقية، وما يقوله المؤرخون الثقات الأجانب والمصريون عن بلادنا وعن حضارتنا؟

لقد قرأت جانبا لا بأس به من المؤلفات والدراسات التى تتحدث عن مصر القديمة، فوجدت العكس تماما، وجدت أن ثقافة مصر القديمة هى فجر الضمير الإنساني، وأن إخناتون هو أول الموحدين، وأن موسى هو تلميذ إخناتون، وأن كبار الفلاسفة اليونانيين تعلموا فى مصر، وأن الفلاحين المصريين كانوا يحاسبون الفراعنة، وأن وضع المرأة المصرية التى عاشت قبل ثلاثة آلاف عام أفضل كثيرا من وضعها الآن، ولا يستطيع أحد أن يجادل فى أن هذا التاريخ المجيد يؤهلنا للتمتع بحقنا فى الحرية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف