١- تطلعت إلى عينى بلهفة اعتدتها.. وبنفس الابتسامة التى لم تتخل عنها منذ رأيتها للمرة الأولى.. والتى طالما احترت فى تفسيرها.
- بس أنا حاسة إنها بتتحسن يا دكتور.. مش كده؟!
دوماً ما ينتظر المرضى أن أصرح لهم بما يتمنون.. وليس بما أجد أثناء توقيع الكشف الطبى عليهم!
- الحمد لله.. إحنا بنعمل اللى علينا والشفا من عند الله.. بس هنعوز التحاليل والأشعات اللى طلبتها ضرورى.
- ربنا يسهل يا دكتور.. هنشوف.. ثم همت بحمل طفلتها العاجزة عن الحركة.
- ممكن تعمليها على حساب التأمين الصحى!
لا أدرى كيف تتحول تلك الابتسامة من الرضا.. إلى المرارة والسخرية بهذه السرعة!
- تأمين؟.. . قلبك أبيض يا دكتور.. ياللا يا دعاء!
٢- لم تكن تعلم هذه الأم الشابة.. أن فرحتها بدعاء.. طفلتها الأولى.. والحفيدة المنتظرة لتلك الأسرة عريقة الأصل -محدودة الموارد- لن تكتمل.. فقد لاحظت منذ اليوم الأول لولادتها أن هناك ورماً صغيراً يبرز من نهاية عمودها الفقرى.
رحلة طويلة بين الأطباء والمستشفيات.. وجراحتان مرت بهما دعاء قبل أن تكمل عامها الأول..
ثم انتهى بها الأمر إلى أن أخبرها أحد الأطباء الشبان فى هذا المستشفى الجامعى الشهير، وهو يخط لها فى ورقة كرتونية خضراء تعليمات المتابعة بأنها لن تستطيع السير على قدميها بسهولة.. وأنها لن تستطيع التحكم فى البول ثانية! وأنها ينبغى عليها أن تتابع فى العيادة الخارجية لقسم العلاج الطبيعى.. وقسم جراحة المسالك البولية..
- طب يعنى فيه أمل تتحسن لما تكبر؟
- غالبا لأ.. اللى بعده.
كان رده حاداً.. وكانت الصدمة قاسية.. ولكنها لم تيأس..
ستة أعوام وهى تتردد على العيادة الخارجية التى وجهها إليها الطبيب الشاب.. والتى تعتبر الأمل الوحيد الذى تستطيع التمسك به.. فى ظل محدودية مواردها وزوجها.. وفى ظل تأمين صحى قاصر.. لا يعترف بهذه النوعية من الأمراض.
ولكن العجيب أنها ما زالت تحتفظ بنفس الابتسامة التى لا تفارق وجهها..
كانت ابتسامتها، وهى تحمل طفلتها هى جواز المرور بين كل الأبواب التى تمر عليها.. يؤمن الجميع بأنها السبيل الوحيد.. حتى لا تنهار تلك الام يوماً..
- يعنى يا دكتور هعمل إيه؟ هو لو عيطت البنت هتخف؟
عجيب أن يخرج هذا الكلام من مريض مزمن فى المستشفيات الحكومية.
٣- رأيت دعاء للمرة الأولى وهى فى الخامسة من عمرها.. كانت رقيقة كالسحاب.. ورثت من أمها الشابة تلك الابتسامة الراضية بكل شىء..
يعرف الأطباء جميعاً صعوبة الكشف على طفل صغير.. ولكن دعاء كانت مختلفة.. كانت مطيعة هادئة.. باختصار كان لزاماً عليك أن تحبها!
المشكلة أن حالتها تحديداً ليس لها علاج معروف حتى الآن.. فهى تعانى من ضمور فى الأعصاب الطرفية، التى تغذى ساقيها ومثانتها البولية.. حتى الأبحاث التى تجرى على هذه الحالات خارج مصر لم تأتِ بنتائج مرضية حتى الآن..
- الطب كل يوم بيكتشف جديد يا أم دعاء.. قولى يا رب!
دعاء فى السادسة من عمرها.. ولكنها تحمل ابتسامة رضا عمرها آلاف السنين.. وتحمل بداخلها هماً يكفى آلاف البشر.
داعبتها كعادتى فى نهاية الكشف.. فاتسعت ابتسامتها، وقالت: هو أنا همشى إمتى زى العيال فى المدرسة؟
إنها إحدى المرات القليلة.. التى أمقت فيها مهنتى!
٤- ألاحظ انتفاخاً فى بطن الأم ينذر بأن مولوداً جديداً فى الطريق
- أشوفها إن شاء الله بعد ٣ شهور.. وتكونى قمتى بالسلامة.. ولد ولّا بنت؟!
- إن شاء الله يا دكتور.. لا، الدكتور قال لى ولد.
- ربنا يباركلك فيه..
تهم بأن تحمل طفلتها وتخرج.. ثم تتردد قليلاً.. وتستدير لى:
- دكتور.. . ممكن أسأل سؤال؟
- تحت أمرك اتفضلى..
- بالنسبة للمولود الجديد.. يعنى هو الموضوع اللى عند دعاء ده.
كانت المرة الأولى التى أراها تتخلى عن ابتسامتها.. وتحل محلها نظرة قلق عنيفة.. ترجونى بعينيها أن أجيبها إجابة تريدها!
- اطّمنى.. الحالة دى مش وراثية.. يعنى إن شاء الله المولود اللى جاى سليم!
إنها المرة الأولى التى أكتشف أنها تمتلك كل هذا القدر من الدموع.. كانت قد استعادت ابتسامتها سريعاً.. ولكن تلك الابتسامة لم تستطع أن تمنع هذا السيل الذى يتدفق من عينيها.
- الحمد لله يا رب.. الحمد لله.. شكراً يا دكتور.
ثم تحمل طفلتها وتخرج.. وهى توزع ابتسامتها على التمريض فى الخارج كأنها ملكت الدنيا..
المرض دوماً كئيب.. ولكن أحياناً يكون المريض مبهجاً!..
٥- منظومة قاصرة تدعى التأمين الصحى فى مصر.. فهو لا يعترف بالكثير من الأمراض المزمنة.. ولا يمتلك الكفاءات اللازمة لعلاج البقية الباقية من تلك الأمراض..
كانت دعاء وأمها حملاً ثقيلاً على طبيب التأمين الصحى.. فقام بتحويلها للمستشفى الجامعى.. الذى لا يملك بدوره الكثير من الإمكانيات اللازمة.. والنتيجة أن الكثير مثل «دعاء» يعانى، وما زالوا!!
إعادة هيكلة المظلة العلاجية أصبح ضرورة.. فبلد لا يملك آلية ميسرة لعلاج طفل عاجز.. من الصعب عليه أن يستكمل الطريق ليصبح «قد الدنيا»!