أذهب أحيانًا إلى مقهى «الأمريكيين» فى شارع 26 يوليو كلما أردت أن أنفرد بأفكارى بعيدا عن البيت، أقبع فى أحد أركان المكان العتيق الهادئ لأكتب. منذ أيام كنت هناك، وفجأة دخل شاب يبدو أنه قادم من عمل يدوى، جلس على ترابيزة بجوارى، وأخذ يدخن بشراهة.
اقترب الجرسون فعاجله الشاب قائلا: هات لى شيشة تفاح ! وقف الجرسون ساهما لثوان ليستوعب الموقف ثم قال: لا والله هنا مافيش شيشة.. وكمان ده ركن غير المدخنين يعنى مافيش سجاير هنا . نظر إليه الشاب بضيق ثم اتجه إلى ترابيزة أخرى فى نفس الركن ركن غير المدخنين وجلس ليكمل سيجارته باستمتاع!
الأمر لا علاقة له بالغنى والفقر، فربما كان ما فى جيب هذا الشاب أضعاف ما فى جيبى، ولكننى أردت أن أقول لهذا الشاب: يا برنس.. مكانك مش هنا .
أنا أيضا فعلت شيئا شبيها وأنا صغير، قررت فجأة أن أعتمد على نفسى وأعمل فى مصنع طوب.. لم أقدّر ما ينتظرنى من عذاب وأنا أعمل فى حمل الطوب على كتفى وأقف فوق أرض ملتهبة، كنت أعتمد على إصرارى وإرادتى، ولكن المسألة كانت تتجاوزهما، المسألة أننى اخترت عملا لا يصلح لى، قدراتى الجسمانية لن تتحمل هذا العذاب، ربما يفعله غيرى ببساطة وهو يشعر بحمل ثقيل إذا طلب منه أحدهم أن يعمل عملى، وبالمثل هذا الشاب ربما جلس فى أماكن أكثر فخامة لا أتحمل أنا تكلفة ارتيادها ولكن هنا ليس مكانه.
كثيرًا ما نعتقد أننا يمكن أن نحقق ما نبتغيه بالإرادة، ولكننا ينبغى أولا أن نتأكد أننا أصلا فى الطريق الصحيح، وأن ما نريد فعله يتناسب مع إمكانياتنا وما يمكننا تحقيقه، وأننا لا نجلس فى مكان خطأ لنطلب شيشة تفاح فى ركن غير المدخنين!