الجمهورية
عبد العال الباقورى
دليل للعربي الذكي إلي "عقيدة أوباما"
بعد ما يقرأ المرء من كتابات عربية عما يسمي "عقيدة أوباما" يثير الضحك إلي حد البكاء.. وهذا أسوأ أنواع الضحك؟
ان أية محاولة جادة لقراءة الأفكار التي طرحها الرئيس الأمريكي في الحوار المقال الذي شغل ثمانين صفحة من العدد الذي يحمل تاريخ أبريل المقبل من مجلة "اتلانتيك" والذي حرره الصحفي "جيفري جولدبرج" يجب أن تعتمد علي التحليل البارد وفي العمق وبعيدا عن العصبية والنرفزة من جانب. وعن الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة من جانب آخر. ان التحليل السياسي كما علمنا أساتذتنا يقوم أولا علي رؤية وتحديد الواقعة أو الوقائع زمانا ومكانا وتشريح الأفكار والمعتقدات ووضع هذا كله في اطار أو أطر عامة تساعد في استخلاص التوقعات أو بتعبير أدق: الاحتمالات المتوقعة أي التي يمكن أن تقع أو لا تقع ومدي أرجحية وقوعها ومعني هذا بكل بساطة ان تحليل الأفكار التي طرحها الرئيس الأمريكي في حواراته هذه ومعها اقتباسات من كبار مساعديه وتعليقات للكاتب.. يجب أن تبدأ من رؤية مجمل أفكاره منذ مارس السياسة عضوا في مجلس الشيوخ ثم رئيسا لمدة ثماني سنوات أوشكت علي الانتهاء وما كتبه وما ألقاه من خطب وبيانات وحوارات سابقة وهنا لابد أن يكون لعلم النفس السياسي كلمة ودور وربما التحليل النفسي أيضا.. ثم علاقة الأفكار التي طرحها الرئيس الأمريكي بمجمل السياسة الخارجية الأمريكية. ان لم نقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945 فعلي الأقل في العقد الأخير من القرن الماضي والعقدين الأول والثاني من القرن الحالي واحتمالات تأثير هذه الأفكار علي السياسة الأمريكية في السنوات والمراحل المقبلة وهذا أمر قد تبدأ سماته في الظهور في الفترة الرئاسية المقبلة 2017/2020 أيا كان من سيدخل البيت الأبيض رجلا أو امرأة جمهوريا أو ديمقراطيا.. مع مقارنة "عقيدة أوباما" - كما وردت في اتلانتيك - مع عقائد ومباديء الرؤساء الأمريكيين السابقين سواء في ذلك مونرو أو ويلسون أو ايزنهاور وصولا إلي آخر رئيس أمريكي قبل أوباما أي بوش الابن.. ويأتي بعد ذلك أو معه ما كتب ويكتب حول "تراجع" أو "أفول" الدور الأمريكي بعد أن انفردت لفترة ليست طويلة بدور القوة العظمي الأكبر عالميا.. وفي هذا هناك سيل من الكتابات سنعرض لبعضها وبسرعة فيما بعد لأنه قد يصعب حصرها ولو بلغة واحدة وننتقل من هذا وعلي ضوئه علي مواقف باراك أوباما من القضايا الأساسية التي تعرض لها وعرض ما قد يتناقض من أفكاره الجديدة مع أفكاره السابقة ومغزي هذا ومدي تأثيره أيضا علي اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية في المرحلة المقبلة. أم أن هذه الأفكار قد تذهب دون أثر أو صدي حسب رأي البعض في حين يتوقع آخرون انها ستكون ذات تأثير كبير لأنها تعبير عن واقع القوة الأمريكية.
عودة إلي البدايات
بعض الذين يهاجمون أوباما وبشدة بعد الحوار المقال في "اتلانتيك" كانوا من أكبر المصفقين والمهللين لدخوله البيت الأبيض.. وظنوا انه سيكون رسول العناية الإلهية لإنقاذ البشرية - خاصة العرب والمسلمين منها - من جحيم سياسة بوش الابن وأفكار زمرة "المحافظين الجدد" بكل ما حملوه ويحملونه من عداء للعرب والمسلمين ومن ولاء وموالاة للصهيونية والصهاينة.. لم يكتف هؤلاء بالتصفيق فقط بل انهم هاجموا بشدة كل من حاول أن يكتب بموضوعية عن الرئيس الأمريكي الجديد ولم تسقط من الذاكرة بعد الحملة التي تعرض لها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل رحمه الله يكفي انه قال: لا تتسرعوا في الحكم علي أوباما وانتظروا ما سيفعل وشاركه في هذا كتاب عرب يقيمون في أمريكا ويحملون جنسيتها ومن يراجع الأحداث. يجد أن أوباما لم يتأخر كثيرا في تقديم البرهان علي صدق وصحة آراء من لم يتحمسوا له.. إذ تراجع بسرعة عن تعيين أحد المقربين إليه في منصب داخل البيت الأبيض بعد أن تعرض لهجوم الصهاينة وكانت هذه مجرد بداية وتلتها خطوات وأفكار أخري أكبر خطرا ولعل مواقفه وسياساته تجاه الصراع العربي - الصهيوني وجوهرة قضية فلسطين خير برهان علي ذلك ودون أن نرجع ونراجع تراجعاته أمام بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي رغم ما يقال من ان الكيمياء ليست متوافقة بينهما!
يمكن القول انه في الواقع كسب للصهاينة ثماني سنوات أخري خطيرة في ضياع ما تبقي من فلسطين وفي ترك غول الاستيطان يلتهم الضفة والقدس.. وان كان يجب القول ان اللوم لا يقع عليه وحده في هذا الشأن بل يقع علي العرب أنفسهم الذين لم يمارسوا ضغطا عليه كي يتخذ مواقف وسياسات أكثر انصافا وعدالة ولدرجة ان بعض العرب يحاولون إلي اليوم أن يوهموا أنفسهم بأن أوباما يمكن ان يطرح في الشهور الباقية له في البيت الأبيض مبادرة عادلة بشأن فلسطين؟! ويتجاهل هؤلاء ان أوباما حتي لو كان قد حاول فعلا تغيير دفة السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل فقد فشل في ذلك.
أوباما و"سقوط" الهيمنة
النقطة الأخري والأخيرة في خواطر اليوم عن "عقيدة أوباما" تتعلق بآراء هل هي مغلقين؟! كبار يرون ان الأفكار التي طرحها الرئيس الأمريكي هي تعبير واقعي عن واقع القوة الأمريكية وعن موازين القوي الدولية في هذه المرحلة وفيما ستقود إليه من عالم متعدد الأقطاب حتي لو ظلت أمريكا تحتل المرتبة الأولي في الاقتصاد والسلاح والنفوذ الدولي بصفة عامة من حيث انتشار وتأثير قوتها الناعمة.
والحديث عن تراجع أو أفول القوة الأمريكية ليس وليد اليوم. انه تزامن مع تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي وبرز من عجز أمريكا من تحقيق نصر مدو في كل من أفغانستان والعراق اللتين غزتهما واحتلتهما بعد واقعة 11 سبتمبر 2001 في تدمير مركز التجارة العالمي وما صاحبه من أحداث وما تلاه من محاولة تركيز واشنطن وقتها علي "مكافحة الإرهاب" الذي انتشر أكثر علي يديها بدلا من أن يتراجع. ووضح من ظهور وتمدد حركة "داعش" التي تقف أمامها أمريكا حائرة ودعك من حديث انها هي التي صنعتها فربما تكون حاولت استغلالها وتوظيفها ثم عجزت عن وقف نموها السرطاني.. وكان مفكرون أمريكيون قد عبروا من قبل عن خشيتهم من أن يقود "الإرهاب" إلي حرب عالمية ثالثة.
ومن المعروف ان الدبلوماسي الداهية ذا الميول الصهيونية هنري كيسنجر كان من أوائل من عبروا عن الاعتراف بعجز القوة الأمريكية عن السيطرة المنفردة عالميا منذ دعا إلي بناء نظام دولي يضم أمريكا وأوروبا والصين واليابان وروسيا علي ان تحظي فيه الولايات المتحدة بدور الريادة بين متساوين ومنذئذ توالي سيل الكتابات عن "نهاية العصر الأمريكي" وما بعد الأمبراطورية: دراسة في تفكك النظام الأمريكي حسب تعبير "ايمانويل تود" عالم الديموجرافيا والتاريخ في كتابه العميق الذي يحمل العنوان نفسه ولم يكن الكتاب والمؤلفون العرب بعيدين عن طرق هذا الموضوع بالبحث والدراسة فيما يلي نماذج من هذه الكتابات القيمة:
* غسان سلامة: أمريكا والعالم اغراء القوة ومداها 2006
* فنسان الغريب: مأزق الامبراطورية الأمريكية 2008
* محمد يوسف عدس: الأمبريالية الأمريكية من الغطرسة إلي الانهيار تقديم الدكتور عادل حسن غنيم 2013
* حسن محمد سليم: الهيمنة الأمريكية ومستقبل القوي الكبري.
ان كل واحد من هذه الكتب يستحق قراءة خاصة تقف علي الأمل عن الجديد فيه ولكن سأعرض سطورا عن أحدث كتاب في هذا الموضوع وهو كتاب الدكتور محمد حسين أبوالعلا وعنوانه "أمريكا أسطورة العدم: المعادلة الاستراتيجية لانقلاب العالم" الذي يقرأ موضوعه قراءة فلسفية ربما لم يتطرق إليها كاتب آخر.. وكم يشعراك بالأسي لأن مثل هذه الكتب القيمة لا تحظي بالانتشار الذي تستحقه خاصة وان سوق الكتاب في بلادنا العربية تكاد تصاب بالركود والكساد الذي لا نملك سوي أن ندعو الله أن ينقذها منه ويقع هذا الكتاب في خمسة فصول هي: أسس الولاء لعقيدة مونرو. قراءة في ملحمة العشق الدموي. الأقصي.. من تساؤلات اللامعقول العربي. طرائف من مرجعيات التاريخ الأمريكي. حول أفق انتزاع القيادة الكونية.
ما لا يدرك كله لا يترك جله. لذلك لم أكن أريد سوي ان اقرأ أربع صفحات من هذا الكتاب العميق عنوانها بروتوكولات التحول الاستراتيجي في تقرير "ستراتفورد" وهي مجموعة بحث أمريكية وهو يكشف عن الأبعاد المتعلقة بالأقطاب الكبار كروسيا وأمريكا في جولة متجددة من جولات التحفز والاستعداء وتوكيد الذات.
يخلص التقرير فيما يخلص إليه في هذا الشأن إلي أن روسيا لن تستطيع بكل ما ستقدمه لمصر من مساعدات أن تزعزع النفوذ الأمريكي المطوق لمنطقة الشرق الأوسط مقابل ما ستقوم به أمريكا من مواصلة الدعم واستعادة دورها الريادي المؤثر ردا لهيبتها وسمعتها الدولية التي يحاول القطب الروسي - في دهاء خفي - العبث بها وزحزحة سطوتها عن الدول الطائعة. لم يورد الدكتور أبوالعلا تاريخ هذا التقرير لنتساءل: ماذا سيقول واضعوه بعد أن ضرب الدب الروسي ضربته في سوريا بدهاء. ثم ماذا سيقولون في ضوء "عقيدة أوباما".
اننا نعيش متغيرات لا نكاد نلاحقها.. واسلمي يا مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف