الوطن
د. محمود خليل
العائشون فى «الكهف»
نظر الفيلسوف «فرانسيس بيكون» إلى وهم «الكهف» باعتباره من أكثر الأوهام التى تسيطر على عقل الإنسان، فتعرقله عن التفكير الموضوعى السليم. وهم الكهف يعنى ببساطة أن الإنسان -أى إنسان- هو فى الأغلب سجين نفسه بما لديها من خبرات وتجارب وتصورات للحياة والأحياء، تدفعه دفعاً إلى التحيز، فتجده يدافع باستماتة عن شخص أو فكرة أو مؤسسة، ولا يغفر لغيره انحيازه لما يضاد أو يعاكس ما يؤمن به، رغم أنه مثله تماماً يعيش داخل كهفه الخاص. فى القرآن الكريم سورة كريمة، اسمها «الكهف». وهى تحكى قصة مجموعة من الفتية الذين آمنوا بربهم، وسط قرية أشرك أهلها مع الله آلهة أخرى. وأمام هوس القوم بمطاردة من لا يعيش داخل كهفهم، لم يجد الفتية الذين كانت لديهم قناعات إيمانية مختلفة، سوى الهرب بما يؤمنون به ليأووا إلى الكهف.

لم يكن «الكهف» دلالة على مجرد مكان، اختبأ فيه الفتية، بل كان دالاً على معنى أعمق، يرتبط بكهف الذات التى يئست من أن يهتدى المشركون من أبناء القرية، ولم يكن هذا التفكير من الحكمة الإيمانية فى شىء. فليس من العقل أن يتصور مؤمن بفكرة أو قضية أو عقيدة أن بإمكانه هداية أحد، كما أن ليس من حقه النقمة على من يعيش أسيراً فى كهفه الخاص، لأن الهدى فى النهاية هدى الله، وليس هدى إنسان، حتى ولو كان نبياً يأتيه الخبر من السماء. لقد كان القرآن الكريم يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى فى أكثر من آية: «ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء». فالخالق القدير يعلم أن كل نفس تحيا أسيرة فى كهف تحيزاتها حتى يشاء الله لها الانتقال لغيرها.

أنسى الخوفُ والحرصُ على الإيمان فتيةَ «الكهف» هذا الدرس، فأراد الله تعالى أن يعلمهم إياه بالتجربة، وجعل مسرح الحكاية «كهفاً» حقيقياً ضرب الله تعالى على آذانهم فيه سنين عدداً، ثم بعثهم بعد مرور ثلاثة قرون وتسع سنوات، وبعد أن أفاقوا خرج أحدهم يطلب طعاماً لهم، وما إن أخرج للبائع قطع الفضة التى كانت فى جلبابه الذى تحول إلى أسمال، حتى صرخ البائع فى وجهه: لقد دقت هذه العملة منذ أكثر من ثلاثة قرون؟. مؤكد أنك عثرت على كنز من عهد الملوك الغابرين!. فر الفتى والناس من ورائه حتى وصلوا إلى الكهف، وأدرك الطرفان الحقيقة، فريق الفتية وفريق الأهالى، أدرك الفتية أن القرية التى خرجوا منها آمنت، وأصبحت على دينهم، وأدرك الأهالى أن هؤلاء هم الفتية الذين تناقلت الأجيال حكايتهم، وأمام الكهف تعلم الطرفان الدرس، أن البشر أسرى تحيزاتهم، وأن الانتقال من فريق إلى فريق أمر إلهى بحت، حين تتهيأ الأسباب والخبرات والتجارب التى تدفع الفرد إلى التغير.

فى فترات الاستقطاب يكون من المفيد أن يتذكر الجميع هذا الدرس، درس وهم «الكهف» الذى يجعل كل فرد أسير قناعاته وتصوراته. مؤكد أن هذا حقه، لكنه يقع فى خطأ جسيم عندما لا يستوعب أن شريكه فى الانتماء إلى طائفة «الأوادم» يعيش هو الآخر أسيراً فى كهفه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف