نحن شعب طيب ومعطاء بطبعه. يجود حتي لو بالقليل. ولدينا كثير من العبارات المتوارثة التي تؤرخ لهذا الطبع. وتضع سياجاً للتكافل والتراحم. لعل أبرزها أنه "لا أحد يموت من الجوع". وهو أمر حقيقي. وسط عالم يفقد كل عام عشرات الموتي بسبب الجوع في أماكن متفرقة. أبرزها في تلك القارة التي ننتمي إليها.
لكن أخشي أن هذه النظرية القاطعة والدالة بدأت تحوم حولها الشكوك بسبب تنامي حالة العوز والحاجة التي طالت الكثيرين. وربما من النادر أو المستحيل أن تسير في شارع أو تخرج من مسجد أو تذهب إلي هيئة. دون أن تصادف الكثير من الشحاذين والسائلين. والذين زادت أعدادهم بصورة مطردة ومخيفة. وبات من المضحك أن نقول عليهم إنهم يحترفون هذا السلوك. فحولنا أناس نعرفهم ضاقت بهم سبل الحياة واضطروا إلي المسألة. أما أؤلئك الذين "لا يسألون الناس إلحافاً" فقد باتوا ندرة. وربما لم نعد نلتفت إليهم بسبب طوفان المسألة. الذي لا يترك لك فرصة للبحث عمن لا يسألون.
وتتنوع صفوف المحتاجين والمجاهدين هذه الأيام. لكن يبقي اليتيم حالة خاصة وواقعاً مختلفاً. بعد أن ساقته الأقدار إلي محنة واختبار كان ممكناً أن يسوقك أنت إليه. وتتعدد في هذه الحالة صور المعاناة. من أم أرملة تكابد الأيام باحثة لسفينتها عن شاطئ ترسو إليه. وأولاد يدرسون أو يعملون أو مقبلون علي الزواج. يبحثون عن نافذة في أفق مسدود قد لا يجدونها. يلفهم ليل طويل. أجبر الصباح علي أن يرافقه. لتصبح الأيام كلها ليالي. يسلم بعضها بعضاً.
وعلي الرغم من كثرة الجمعيات الخيرية التي قامت علي أهداف يفترض أنها نبيلة. إلا أن الكثير منها ضل الطريق إلي الخير وباتت وسيلة لأصحابها للتكسب من وراء هذه الغايات. تتحصن بعدد من أصحاب الحاجة. سواء كانوا حقيقيين أو مدعين. وتستثمر البقية الباقية من طبائع الشعب الطيب. لتتاجر بالهموم والآمال.. تزيدها وتسرقها.
ليست كل الجمعيات كذلك. فهناك قلة تشارك أولئك "الجرحي" حياتهم. لكنها تتوه وسط الزحام. تعف عن السؤال وتأبي المتاجرة بهموم من ترعاهم. ومن تلك الجمعيات جمعية "كنوز الخيرية" بمدينتي دمنهور. والتي تترأس مجلس إدارتها السيدة ميادة بصل. وقد كنت شاهداً علي عدة فعاليات. كانت السيدة ميادة تتولاها في صمت عجيب وإصرار نادر. وصل حد المشاركة بنفسها في صناعة وجبات ومنتجات لتلك الأسر. في مقر الجمعية التي أشرف بالانتماء إليها.
جمعية "كنوز الخيرية" وبطبيعة الحال. تولي اهتماماً هذه الأيام بالأيتام. تشاركهم حالتهم وليس احتفالهم.. تدرك السيدة ميادة بصل أن كل من ينتمون إلي الجمعية هم كولديها يوسف ومحمود.. تؤمن أن الأقدار لا تكافئ أو تعاقب. وإنما تختبر.. تختبر صبرهم وشكرنا. وأياً كان واقع المعادلة علي الأرض. فإن هناك معادلة أخري أبقي وأهم لدي السماء.
ربما لم تكن السيدة ميادة بصل تود أن أكتب عنها ولا عن "كنوز الخيرية". ولكن ما فائدة ما نكتب إن لم نبحث عن كل من يعطي لنقول له شكراً.. ما فائدة ما نكتب إن لم ينتصر للعطاء والخير.. ما فائدة ما نكتب إن تركنا "اليتيم" وسرنا خلف اللئيم.
** ما قبل الصباح:
لقمة تطعمها غيرك.. تلك حقاً التي أكلتها