مولد السيدة نفيسة، ثم مولد الرفاعى، ثم مولد السيدة زينب، هى أشهر الموالد التى يعرفها أهالى القاهرة، هذه الأيام تتعاصر مع مولد «الرفاعى»، وعما قريب يهل مولد السيدة زينب خلال شهر رجب المقبل. المصريون شغوفون أشد الشغف بالموالد، جزء من هذا الشغف يرتبط بمحبة آل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، وأولياء الله الصالحين، لكن من المؤكد أن ثمة أسباباً أخرى تاريخية وموضوعية يمكن أن تفسر لنا حالة الارتباط تلك.
الأسباب التاريخية معروفة، فقد لعب من رفعهم المصريون إلى درجة «الولاية» دوراً مهماً فى حياة المصريين، خلال الفترات التى عاشوها فوق أرض المحروسة، بعض هذه الأدوار ارتبط بالعلم وتعليم الناس أمور دينهم، كما كانت تفعل السيدة نفيسة، رضى الله عنها، وفى بعض الأحوال كان الأولياء يلعبون دوراً سياسياً شديد الخطورة فى حياة المصريين، فالسيدة زينب، رضى الله عنها، دأبت، كما تحكى سيرتها بعد مجيئها إلى مصر عقب مقتل أخيها الحسين بن على، على إيواء الضعفاء، ليستظلوا بمحبتها ويأنسوا بحمايتها. كانت السيدة زينب تتمتع بشخصية قوية الشكيمة ثابتة الجنان، وقد تحملت ما لا تستطيع امرأة تحمله بعد محنة «كربلاء»، وثبتت فى مواجهة شهيرة أمام يزيد بن معاوية، بعد أن حقق نصراً سريعاً فى هذه المعركة، وجادلته بقوة، دون أن تأبه إلى سيوف أنصاره التى تلمع من حولها. ومن اللافت أن المصريين أطلقوا عليها «رئيسة الديوان»، وكذا «المشيرة»؛ لأنهم يعتقدون أن حكام وأمراء عصرها كانوا يجتمعون لديها، لتشير عليهم بما يجب أن يتخذوه من قرارات، والموروث الشعبى يؤكد أن المصريين كثيراً ما كانوا يهرعون إلى السيدة زينب لتكلم لهم الحكام حتى يرفعوا المظالم عنهم.
ومن العجيب أن المصريين لم يتوقفوا عن اللجوء إلى السيدة زينب، رضى الله عنها، وغيرها من الأولياء، حتى بعد وفاتها، خصوصاً هؤلاء الذين يشعرون بالضعف والعجز عن حل مشكلاتهم. عبّر عن هذا الأمر بعبقرية المرحوم «يحيى حقى» فى رواية «قنديل أم هاشم»، وهو يصف حال «إسماعيل» -بطل الرواية- عندما جلس ساهماً أمام مقام السيدة، فجاءه الشيخ «درديرى» يسأله عما يؤرقه؟ فأجابه بأنه يبحث عن واسطة ليدخل كلية الطلب ولا يجد، فقال له الشيخ «درديرى»: واسطتك موجودة.. السيدة زينب تتشفع لك عند الحكام!. مؤكد أيضاً أنك سمعت عن الرسائل التى يرسل بها الفقراء والضعفاء إلى الإمام الشافعى، ليشرحوا له المشاكل التى يعانون منها، أملاً فى تدخله لحلها.
من الموضوعى جداً أن يتشبث الإنسان العاجز أمام الواقع بأى سبيل للانتصار على ضعفه، حتى ولو كان بالوهم. ومن المهم -فى هذا السياق- أن نفهم أن الأمر لا يتعلق بالبسطاء وحدهم، بل بغير البسطاء أيضاً، فالناس عند الضعف سواء، والضعف سمة أساسية من سمات الإنسان، فرحلة الحياة منشؤها الضعف ونهايتها الضعف. يقول الله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً».. حياة المصريين مولد وصاحبه غائب فى الأغلب!.