رأس العلم، وقمة اليقين، وذروة الغايات، وخلاصة الأفهام، وزاد المؤمن.. تزيده شرفا، وترفعه لمصاف الملوك.. إنها "الحِكْمَة".
عبّر عنها القرآن بقوله تعالى عن نبيه يحيي بن زكريا: "وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا".(مريم: 12). أي: علماً، وفقهاً، ومعرفة بأحكام الله، وحُكما بها.. لذا أُثِرَ عنهُ، وهوَ صغيرٌ، أنه دعاهُ أقرانُهُ للّعبِ، فقالَ: "ما لِلَعِبِ خُلِقنا، اذهبُوا نُصلّي". (أخرجَهُ الحاكم).
وقال عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بها، ويعلمها". (البخاري ومسلم والنسائي).
ومن هنا ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أنه قَالَ: "ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ". (البخاري).
قال الحافظ ابن حجر: "اختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا، فقيل: القرآن، والعمل به، والسنة، والإصابة في القول، والخشية، والفهم عن الله، والعقل، وما يشهد العقل بصحته، ونور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وسرعة الجواب مع الإصابة. والأقرب أن المراد بها: الفهم في القرآن". (فتح الباري).
لكن ما هي "الحكمة" أيضا؟
قدم لها كثيرون تعريفات عدة.. منها: "فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي". (ابن القيِّم)، و"إحكام وضع الشيء في موضعه". (أبو إسماعيل الهروي).
وهي: "العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل". (النَّووي).
وقال أبو حيان التوحيدي: "ضالة المؤمن، أنَّى وجدها أخذها، وعند من رآها طلبها". وقال الشوكاني: "الأمر الذي يمنع عن السفه".
وعنها قال أيضا علي بن أبي طالب: "ضالة المؤمن، فخذوها، ولو من أهل النفاق".
ورأس الحكمة شكر الله بالتوحيد، قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ".(لقمان:12).. الحكمة: الفقه في الدين، والعقل، والإصابة في القول. وقيل: "أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ"، أي: "احمد الله على ما آتاك من فضله"، فكان من الحكمة التي أوتيها؛ شكره الله على ما آتاه".(الطبري).
و"الحكيم" اسم من أسماء الله تعالى، وهو صيغة تعظيم لذي الحكمة، فمعناه: "العظيم في حكمته"
ورفع الله تعالى مكانة الحكمة فقال: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ". (البقرة : 269).
"يُؤْتِي الْحِكْمَةَ" أي: العلم النافع المؤدي إلى العمل.. "فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً"، لمصيره إلى السعادة الأبدية.
قال ابن عباس عن الحكمة: "المعرفة بالقرآن: ناسخة ومنسوفة ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله".
وقال مالك: "هي: الفقة في دين الله". وقال ابن قتيبة والجمهور: "هي: إصابة الحق، والعمل به، والعلم النافع، والعمل الصالح".
وهكذا: الحكمة لها معانٍ عدة في القرآن، ليس معنى واحدا، وما يحدد معناها السياق الذي ترد فيه.
قال ابن باز: "الحكمة" كلمة مشتركة تُطلق على معان كثيرة: النبوة، والعلم، والفقه في الدين، والعقل، والورع، وكل كلمة تردعك عن السفه، وتزجرك عن الباطل، هي حكمة.. والآيات القرآنية حكمة، والسنة الصحيحة حكمة، والأدلة الواضحة حكمة، والكلام المصيب للحق حكمة". (مجموع فتاوى ابن باز).
وعلق القرطبي قائلا: "من أُعطى الحكمة والقرآن أُعطى أفضل مما أعطى من جمع علم كتب الأولين، لأنه تعالى قال لأولئك: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا".(الإسراء: 85).. وسمى هذا "خيرا كثيرا"، لأنه "جوامع العلم".
أخيرا: قال حكماء: "من أُعطى القرآن والعلم ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا؛ لأجل دنياهم، فإنما أعطى أفضل مما أعطوا، لأن الله سمى الدنيا "متاعا قليلا"، فقال: "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ". (النساء:77).. بينما سمى الحكمة "خيرا كثيرا".