أحمد عبد التواب
داعش صامد في مواجهة العالَم!
أحكم تنظيم داعش إغلاق أفق فرصة النجاة أمام ضحاياه، ولم يعد متاح أمامهم حتى المغامرة بحياتهم للنجاة من قبضته! فهم يواجهون الإذلال والموت فى بلادهم حيث استولى داعش على الأقاليم التى يعيشون فيها. ثم إذا بهم، وهم يعرّضون حياتهم للموت فى البحر بحلم أنهم سيصلون إلى برّ النجاة فى أوروبا، يُفاجأون بداعش وقد سبقهم بعملياته الإرهابية ضد الأوروبين الذين بدأوا يغلقون المنافذ التى كانت متاحة للساعين للنجاة، حتى أيام قليلة، ولم تعد هنالك فرصة للدخول تحت عناوين الرأفة الإنسانية.
وقد وفّر هذا لغلاة اليمين فى دول الغرب فرصة كانت نادرة حتى وقت قريب، فانطلقوا يحذرون، وفى يدهم وقائع مادية هذه المرّة، بأن بذرة الإرهاب عنصر أصيل فى ثقافة العرب والمسلمين، وأنه ليس هنالك أى فروق جوهرية بين داعش وضحاياه.
الوضع الآن: إما الإذعان للقهر المميت داخل البلاد، وإما المغامرة بالموت فى البحر، وإما مواجهة التوقيف على الحدود الأوروبية مع مخاطر الترحيل إلى البلد الأم مرة أخرى حيث ساءت الأوضاع التى كانت سبباً فى الهروب، أو إلى بلد ثالث يقبلهم، وهو لا يخلو أيضاً من تهديدات داعش!
وهكذا حقق داعش على الأرض ما هو أكثر تراجيديا من ملاحم الإغريق التى كان هنالك إتفاق على أن مفارقاتها الدامية محض خيال لا يقع فى حياة البشر.
ويبدو أن داعش صار أكثر تحرراً وانطلاقاً، وقد بزّت جسارته كل جرائمه السابقة، ففى أيام قليلة اتسعت مجالات إرهابه، وتعدت العراق وسوريا ومصر، وتجاوز قدرته اختراق حدود مصر الغربية والحدود الشرقية لتونس، وطالت ضرباته الموجعة فرنسا وبلجيكا، وخلال أيام قليلة وقع بعض إرهابييه فى قبضة روسيا وفرنسا وبلجيكا، ووصلت تهديداته فى بيانات منشورة بريطانيا وفرنسا وروسيا..إلخ إلخ.
وتكشّف لأجهزة الأمن الغربية أن مخططاته وصلت إلى حد استهداف مواقع نووية، مما تسبب فى حالة غير مسبوقة من الرعب تتطلب استنفاراً غير عادى.
واتسعت دائرة تجنيده إلى القدرة على جذب إرهابيين جدد من الشيشان وطاجيكستان إلى ألمانيا والنمسا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وأمريكا وكندا واستراليا وماليزيا وأندونيسيا وغيرها.
بالمقارَنة، فقد بزّ داعش بمراحل أقصى ما وصل إليه تنظيم القاعدة، بل حقق طفرة نوعية، فى التمويل وفى العدة والعتاد، وفى ارتفاع مستوى كادر المقاتلين، خاصة بعد أن صار له أرض يقيم عليها ويطبق أوهامه فى الحكم.
ولم تعد التفسيرات القديمة مقنعة أن داعش يتحرك وسط الطبقات الفقيرة والأقل تعلماً، بعد أن نجح فى اختراق فئات تنعم بالثراء وتحظى بتعليم راق.
المفروض، وبعد أن وصل الخطر إلى هذا الحد، وبعد أن باتت الوقائع أوضح من أن يُجادَل فيها، أن يسود اقتناع بأنه لم يعد ينفع، ولا يُقبَل، أن تستمر الحسابات الصغيرة التى تعرقل مواجهة خطر داعش، ولم يعد من الممكن أن يتكرر عبث منظمات حقوقية محلية ودولية ظلت خلال العامين الأخيرين تتعمد تكبيل مصر فى حربها ضد إرهاب داعش وأمثاله، وتوالت مئات التقرير المتناغمة فى شكل مريب بين الداخل والخارج، حتى إن منظمة "هيومان رايتس ووتش" أصدرت بياناً شهيراً قبل أشهر قليلة تصف فيه إرهابيى داعش فى سيناء بأنهم "متمردون"، فى صفة تسبغ عليهم شرعية أنهم مناهضون لحكم مستبد، وأضاف البيان نداء إلى دول العالم أن تتوقف عن مدّ مصر بالسلاح الضرورى لمواجهة داعش بزعم أن نظام الحكم فى مصر يستخدم هذا السلاح ضد شعبه!
أضف إلى ذلك البيانات الفورية التى تتوالى مع كل مواجهة لأجهزة الدولة، فى انتقاد عنيف لما يسمونه خروقات لتدابير توفير السلامة البدنية والنفسية للمتهم، فى تعمد إنكار، يصل إلى حد التزوير الفجّ، الذى يتستر على الجريمة ولا ينقل أن ما حدث هو فى سياق دفاع أجهزة الدولة عن نفسها وعن مواطنيها أمام أعمال إرهابية مما بدأ يعرفها وينكوى منها الغرب الآن.
وجدير بالتأمل والدراسة هذه المواقف التى تتخذها دول أوروبية هذه الأيام فيما لم تشهده الأجيال المعاصرة، بعد أن كانت تنتقدها من مصر، فقد بدأت فى بلجيكا سرياً محاكمة صلاح عبد السلام، المتهم فى جرائم إرهابية وقعت فى فرنسا، دون السماح للصحافة بحضور الجلسات، فى ممارسة لواحد من الاستثناءات الشديدة فيما يخصّ علنية المحاكمة كضمانة لتوفير شروط العدالة للمتهم، وقد أمرت السلطات البلجيكية قوات الجيش بالنزول إلى العاصمة لتوفير الأمن، ولم يحتج أحد على صورة الجنود الذى يشهرون السلاح الآلى فى وجه عابرى الطريق من المدنيين العزل، بل وصل الأمر إلى دراسة احتمال إقامة بطولة الأمم الأوروبية لكرة القدم دون جمهور خشية أن يندس الإرهابيون..إلخ
لا ينبغى أن تتحرك الآن روحُ الشماتة ضد الغرب الذى تورط مع داعش، إما بابتكار فكرته والعمل على توليده بحساب ساذج عن إمكانية السيطرة المطلقة عليه، وإما بالتغافل عن جرائمه البشعة ضد المدنيين المسالمين من التعساء الواقعين تحت سيطرته، وإما بمده بالسلاح والتدريب بتصور النجاة من جرائم كوادره المدربة، وإما بدعمه مالياً والصمت عن استيلائه على آبار للبترول وسرقته وبيعه لبعض الدول، وإما باتخاذ الإجراءات التى سمحت له بإقامة قواعده فى ليبيا كوطن مستقر، وإما بالغفلة عما يمكن أن يترتب مباشرة على إطلاق حرية الحركة له، وإما بالمسرحيات السخيفة التى بدّدت وقتاً ثميناً من التحالف الدولى بقيادة أمريكا فى الإيهام بمحاربة داعش، فى حين كانت طائرات أمريكا وحلفائها تلقى لمقاتلى داعش بالسلاح والذخيرة والطعام والدواء، وكان يُقال فى كل مرة إنها حدثت بالخطأ..إلخ
وفد جاء تعليق ذكى على هذه المسرحية الهزلية فى رسم كاريكاتورى نفذ إلى جوهر الموضوع وعبّر بعمق بأكثر مما تفعله مقالات كثيرة، حيث رسم مظاهرة صاخبة من إرهابيى داعش، فى بداية التدخل الروسى فى سوريا، يرفعون لافتات تطالب بإيقاف القصف الروسى وبإعادة القصف الأمريكى!
كل هذا يوفر المنطق والحجة القوية لمصر بأن تتخفف من وقع النقد الذى دأب الكثيرون على توجيهه لها طوال الأعوام الماضية فى مواجهتها لإرهاب داعش وشركاه. وربما صار من الوارد أن تنضم مصر لحلف جاد يحارب داعش ويجبره على وضع السلاح.