الوطن
د. محمود خليل
شعرة «معاوية»
أخطر الخطر ترك الخطر. لا أنفك أستشهد بحالة «مروان بن محمد بن مروان» عند الحديث عن تلك الحقيقة الوجودية. «مروان» هو آخر خلفاء بنى أمية، على يديه ضاع الملك الذى تأسس على يد الجد الكبير «معاوية بن أبى سفيان، وزالت الدولة التى حكمت المسلمين ما يقرب من قرن من الزمان، أضاع «مروان» الحكم بسبب عدم استيعابه لهذا الدرس «أخطر الخطر ترك الخطر».

يحكى «ابن كثير» صاحب «البداية والنهاية» رحلة هروب «مروان» من دمشق، بعد تمكن العباسيين من ملك بنى أمية، والمواقف التى مر بها فى رحلة السقوط، ويقول: «اجتاز مروان وهو هارب براهب، فاطلع عليه الراهب، فسلم عليه فقال له: يا راهب هل عندك علم بالزمان؟ قال: نعم عندى.. من تلونه ألوان، قال: هل تبلغ الدنيا من الإنسان أن تجعله مملوكاً بعد أن كان مالكا؟ قال: نعم، قال: فكيف؟ قال: بحبه لها، وحرصه على نيل شهواتها، وتضييع الحزم، وترك انتهاز الفرص، فإن كنت تحبها فإن عبدها من أحبها، قال: فما السبيل إلى العتق؟ قال: ببغضها والتجافى عنها، قال: هل تعرفنى؟ قال: نعم، أنت ملك العرب مروان». يستطرد «ابن كثير» قائلاً: «وقال بعضهم: جلس مروان يوماً وقد أحيط به، وعلى رأسه خادم له قائم، فقال مروان لبعض من يخاطبه: ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفى على أيد ما ذكرت، ونعم ما شكرت، ودولة ما نصرت، فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين، من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفى حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا، فقال مروان: هذا القول أشد علىَّ من فقد الخلافة».

هكذا انتهى ملك بنى أمية، زالت الدولة التى أسسها واحد من كبار السياسيين فى تاريخ المسلمين، بل قل فى التاريخ الإنسانى ككل، إنه معاوية بن أبى سفيان الذى تمكن من تغيير مسار الحكم فى الإسلام من الخلافة إلى الملك العضوض، بفضل تلك القاعدة النافذة التى كان يدير بها سياسته، عبارة: «والله إنى لا أضع سيفى، حيث يكفينى سوطى، ولا أضع سوطى، حيث يكفينى لسانى، ولو أن بينى وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها»، لقد بدأ معاوية رحلة الانقضاض على الحكم بالطواف بقميص عثمان -الخليفة الرابع الذى اغتيل- فى شوارع الشام، وعندما استقر على كرسى الملك، ذهب إلى المدينة، ودخل دار «عثمان» فقابلته ابنة الخليفة القتيل بالنياحة والعويل وهى تقول: يا أبتاه، مطالبة بدم أبيها عثمان، فقال لها معاوية: يا ابنة أخى! إن الناس أظهروا طاعتهم لنا وأعطيناهم الأمان، والحقد مخبوء تحت طاعتهم، كما أضمرنا الغضب عليهم بحلمنا لهم، ولو نقضنا عليهم العهد حينئذ لا ندرى ماذا يجرى، ولمن تكون الدائرة؟ ولو سكنتى كان أنفع وأحمد عاقبة، وكونك ابنة عمّ الخليفة خير لك من أن تكونى امرأة عادية مسلمة.

جوهر النجاح السياسى لمعاوية ارتبط بالوعى بالذات، حيث كان يجيد وزن نفسه، ويعرف أهدافه فى الحياة، كان «معاوية» يقارن بينه وبين سابقيه قائلاً: «أما أبوبكر فلم يرد الدنيا، وأما عمر فأرادته فلم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهراً لبطن».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف