في كل بلاد الدنيا التي عرفنا خصومات سياسية وصلت حتى إلى الحرب الأهلية بين فرقاء، ثم انتهت الأمور إلى الحوار الذي يصل إلى التسوية والمصالحة، التي تكفل تحقيق السلم الأهلي الضروري لتأمين شروط الحركة باتجاه المستقبل، كل حرب أهلية أو نزاع أهلي له كلفته الضخمة، التي تقول لنا خبرة التاريخ إنه كان بالإمكان تجنبها بقليل من التنازل من كل أطراف الخصومة.
ولم تعدَم أي دولة في العالم وجود حكماء متجردين مخلصين لبلدهم، قاموا برعاية مصالحات أو حوارات أدت في النهاية إلى حسم مادة الخلاف، وتأمين بيئة للتعايش والحوار بل والشراكة السياسية بين فرقاء متبايني الأفكار والمعتقدات، ذابت خلافاتهم على أرضية المواطنة الحقيقية والاحتكام لقواعد عادلة تنظم المنافسة السياسية وتداول السلطة بشكل سلمي، وضمن مناخ من تكافؤ الفرص والحرية.
في بلادنا المنكوبة بالاستبداد والفساد الذي خالط اللحم والعظم، حتى أضحى من ثوابت التفكير لدى بعض المحكومين قبل الحكام، تخضع الخصومات السياسية لمنهج حدي قاتل، يبدد فرص التقارب، والوصول إلى نقطة وسط في السياسة، التي هي فن منطقة الوسط وفن التنازلات المتبادلة.
وفي ظل هذا المستوى من الخصومة والمكابرة لدى كل الأطراف، تبدو أدوار الحكماء غائبة، من يتقدمون لصدارة المشهد انطلاقًا من الشعور بالمسؤولية الوطنية، والحدب على هذه البلاد يتقدمون لنزع فتيل الاحتقان، يرشون الماء على نار الخلافات، يبردون البيئة ويطهرونها من دخان الخلاف ويمهدون الطريق للحوار، واضعين نصب أعينهم المصلحة العليا للبلاد بحق، لا كدعوى باطلة تتشدق بها أطراف الخلاف وتختبئ خلفها أحقادهم وثاراتهم الخاصة، يتقدم هؤلاء صامدون لحملات التشويه والاتهامات من مارينز الإعلام المصري صوبهم، متصدقون بأعراضهم حسبة للوطن يملأ وجدانهم وعقلهم، هذا الشعور بخطر البقاء، في ظل تلك الأجواء من الاحتقان والتحريض المتبادل ورعاية العداوات وتأبيدها.
يا سادة.. المصالحة ليست خطيئة يسعى المرء للتبرؤ منها، بل هي مما أمر الله تبارك وتعالى عباده بها يقول تعالى «لاخير في كثير من نجواهم إلَّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا».
لا توجد دولة تصارع هذا الحجم من التحديات محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، ثم تنفر بعض الأصوات المغرضة داخلها من فكرة المصالحة وتشيطنها، وتختزلها في العلاقة بين نظام وفصيل، المسألة أكبر من ذلك بكثير، ما نحتاجه هو حوار وطني واسع، يحرر قواعد صحيحة للمشاركة السياسية وتداول السلطة، وفتح أفق السياسة دون خوف من هذا الفصيل أو ذاك، ربما هذه ليست مرحلة التنافس بل مرحلة الاصطفاف الذي لن تصنعه إلَّا قواعد صحيحة من الرشد والعدل، الاستدراك على النظام لا يعني اتهامًا له بالخيانة أو العمالة أو حتى الكفر.
نحن في النهاية نختلف حول ممارسة سياسية، لكن ما لا ينبغى الخلاف حوله هو حق الجميع في المشاركة السياسية والمنافسة دون قيد أو شرط، وبعدالة تعصف بها تصريحات من قبيل تصريحات وزير العدل السابق الذي توعد بقتل عشرات الآلاف من الإخوان، الذين هم ليسوا سواء أو كتلة مصمتة واحدة انجرفت الى العنف، في ظل حالة التعبئة والشك، عصفت التدابير الأمنية بالعديد من مواد الدستور، بل وببديهيات العهد الدولي لحقوق الإنسان، شرعية النظام، الذي يحكمنا مرهونة بتقيده ببنود خارطة الطريق وموادها، ومن أهمها العدالة الانتقالية والحوار الوطني وميثاق شرف إعلامي.
حتى الآن تبدو تلك الخطوات معطلة عن عمد، وإذا كان البعض قد ربط بين الإفراج عن بعض السجناء من الإخوان أو القريبين منهم، في تحالف دعم الشرعية، أو لقاء دوري بين المخابرات المصرية وحركة حماس، واستنتج من ذلك قرب الوصول لتسوية بين النظام والجماعة، فهذا ليس طموح أي وطني شريف، ما نطمح له هو مصالحة بين كل الأطياف والتعارف على قواعد يقبلها الجميع، لا تقصي ولا تصطفى إلَّا وفق القانون العادل الموافق للدستور، لن يمهد الأجواء لذلك إلَّا مصالحة تعقب حوار وطني واسع، تعرض فيه القضايا كافة، وتحسم الخلافات وفق عدالة انتقالية قدمت لنا دول أخرى تجارب ملهمة لها نستطيع الاستفادة منها.
مصر لم تعد تحتمل استمرار الوضع على ما هو عليه، في ظل ما نواجهه من تحديات ومن ثم علينا أن نقف وندعم الحوار الذي يصنع المصالحة الشاملة، لنرهب طيور الظلام المصالحة ليست خطيئة، الخطيئة الحقيقية هي رعاية الخلاف وتأبيده بين فرقاء الوطن الواحد.