لم أتفاجأ عندما أجرت أهرام أسامة سرايا عملية جراحية لصورة نشرتها على صدر صفحتها الأولى مطلع سبتمبر 2010، لتظهر الرئيس الأسبق حسنى مبارك متقدما مسيرة مباحثات السلام، التى جرت بالعاصمة الأمريكية واشنطن.
حينها دافع سرايا عن جريمة «الفوتو شوب»، التى وضعت مبارك فى المقدمة ويسير خلفه بالترتيب العاهل الأردني الملك عبدالله والرئيس الأمريكي بارك أوباما ورئيس الورزاء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس، قائلاً: الصورة التعبيرية التى نشرناها دليل على الموقف السياسي الدقيق لمكانة الرئيس مبارك وموقعه فى القضية الفلسطينية، ودوره المتفرد فى قيادتها.
وأضاف سرايا فى مقاله المنشور بعد تدويل «الفضيحة التعبيرية» ونشر «غسيلنا الوسخ» فى عدد من الصحف ووكالات الأنباء العالمية: «أن المناخ السياسي السائد حولنا فى مصر يتجه نحو الإثارة ومشتملاتها، ومحاولة اللعب على كل الأوتار، مما أدى إلى تغييب الحقائق نفسها، قبل أن يصاحبها تغييب القيم والضرب عرض الحائط بأخلاقيات تعارفنا على تسميتها بالقيم المهنية وحدود اللياقة والزمالة».
استماتة رئيس تحرير جريدة «يوم أن ولدت مصر من جديد» فى الدفاع عن الجريمة المهنية، ورفضه الاعتذار، فجر فيضانا جديدا من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي حينها، ونشر النشطاء الصورتين الأصلية، التى يتقدم فيها أوباما المسيرة، و«المضروبة» التى صدرت مبارك فى المقدمة لـ«دوره المتفرد فى قيادات مفاوضات السلام».
الأهرام وغيرها من صحف الحكومة، تعيش فى بلاط السلطة، أي سلطة من جمال عبد الناصر إلى محمد مرسي، المنطق الذي يحكم إدارات تلك المؤسسات أنهم يعبرون عن الدولة وسياستها، وأن دورهم الأصيل هو «غسيل» النظام وتلميعه أمام المواطن، وفي العهد الميمون للرئيس عبد الفتاح السيسي، تبنت الصحف الخاصة نفس المنطق وتصدت للدفاع عن الرئيس المخلص ونظامه الملهم، وكل من يغد خارج السرب يتحول إلى «خاين وعميل وطابور خامس».
المستوى الركيك من التدليس والخداع الذي وصل إليه الإعلام الحكومي ولحقه ومضى على نهجه الإعلام الخاص، دفع المواطن إلى صناعة إعلامه بنفسه، وتحولت مواقع التواصل الاجتماعى إلى مساحة محررة للتفاعل والتعبير عن الرأي وتبادل الأخبار دون وصاية من المخبرين الجدد أو تحكم «الأجهزتية».
الكارثة والطامة الكبرى أن يصل قطار التدليس إلى مناهج التعليم، وبدلاً من أن نبني مستقبلنا على أساس سليم، ننسف كل القيم ونمارس على أولادنا «الخداع التعبيري»، فيشطب أحد جهلاء وزارة التربية والتعليم، اسم وصورة الدكتور محمد البرادعي، نائب رئيس الجمهورية السابق ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأسبق، من كتاب اللغة العربية للصف الخامس الابتدائي ضمن المصريين الذين حصلوا على جائزة نوبل، فقط لأن عددا كبيرا من المدرسين، وأولياء الأمور «طالبوا بحذف الصورة، وكل ما يتعلق بالبرادعي؛ لأن الموضوع كبير على وعي الطالب فى المرحلة الخامسة»
ما بين الأقواس فى الفقرة السابقة، كلام الزميل بشير حسن، الصحفي الأهرامي والمتحدث باسم وزارة التعليم، الذي انبرى فى الدفاع عن موقف وزارته، ومشى على نهج زميله أسامة سرايا رئيس تحرير «الأهرام» الأسبق، عندما برر خطيئة صورة مبارك التعبيرية.
كلام المتحدث الرسمي وباقي الجوقة التي تركت القضية الأساسية وتفرغت لتبادل الاتهامات على شاشات الفضائيات، لا يقبله عقل أحد حتى لو كان ابنى الأكبر عبد الرحمن الطالب بالصف الخامس الابتدائي، أحد ضحايا عملية «الخداع الاستراتيجي»، وبالنظر إلى سوابق أعمال وزارة «الهلالي الشربيني» فى التعاون مع «أمن الدولة» فى تنقية كشوف مرشحين للتعيين، فلا يمكن يمكن استبعاد أن يكون «الأمن الوطني» يمارس نفس العملية «التنقية» للمناهج الدراسية.
المواطن وقَع عقوبة «الهجر والعزوف» على الإعلام التقليدي، بعد إدانته فى جرائم تدليس وخداع موثقة بالصوت والصورة، ولجأ إلى الإعلام الموازي، لكن ماذا نفعل كأولياء أمور مع وزارة من المفترض أننا سلمنا لها عقول أولادنا.
«المخلوع» مبارك زور التاريخ وتدخل على طريقة الـ«فوتو شوب»، فى صورة لغرفة عمليات حرب أكتوبر جمعت الرئيس الأسبق أنور السادات، وعلى يساره وزير حربيته أحمد إسماعيل، ووضع نفسه على يمين القائد الأعلى للقوات المسلحة، بدلا من الفريق سعد الشاذلى رئيس الأركان حينها، وخلفه اللواء الجمسي رئيس غرفة العمليات.
خصومة السادات مع الشاذلي، التي ورثها سلفه «الإمعة»، جعلت الأخير يشطب تاريخ رئيس أركان حرب أكتوبر بأستيكة، حتى جاءت ثورة يناير لتنصف الرجل الذي كرهه مبارك، ليخرج جثمانه فى جنازة مهيبة، ويشيعه الثوار إلى مثواه الأخير، بينما يذهب مبارك إلى حيث ما يستحق «مزبلة التاريخ».
لا نستبعد أن يضع «أجهزتية التعليم» اسم الرئيس عبد الفتاح السيسي فى كتب التاريخ المدرسي كأحد أبطال حرب أكتوبر أو أنه مفجر الثورة دون منازع، لكن الأيام لا ترحم، و«الكذب مالوش رجلين».
العبث فى عقول الجيل الجديد هو تلاعب بالمستقبل.. وكأب سأضطر إلى مراجعة كل ما يخص التاريخ فى مناهج أبنائي، فمن خدع أولادك مرة سيخدعهم مرات.