كثيراً ما أشعر بالامتنان الشديد لقنوات فضائية متخصصة في أحياء وبعث الأفلام السينمائية المصرية القديمة باعتبارها "جواهر خالدة" هذه الأعمال لها فوائد عديدة. أولها تنشيط الذاكرة البصرية التي تعتبر ترياقاً يشفي من آفة النسيان.. فماذا لو ضاعت هذه الكنوز في غياهب الإهمال؟؟
بعض الأفلام مازالت قادرة علي اشاعة البهجة بحكايات مسلية رغم بساطتها الشديدة وطواقم ممثلين أصبحوا يسكنون وجدان المصريين بخفة روحهم وتفردهم في أساليب الأداء والألقاء.. أنها جميلة كونها باتت جزءاً من الماضي البعيد نسبياً ومثيرة للشجن بكل تأكيد.. أعمال تثير الحنين إلي مصر التي كانت خالية من الأمراض الاجتماعية التي أصبحت الآن تهدد النسيج الاجتماعي الذي جمع من بين خيوطه حينئذ جميع الأديان والجنسيات في بنايات واحدة.. والمدهش في هذه الأعمال أنها تشيع من اجوائها المرحة فيما تستنكر التمييز الطبقي وتنحاز عفوياً إلي الطبقات الأقل حظاً من الثروة والجاه الاجتماعي في فيلم "سلامة في خير" لاحظ طريقة رسم الشخصيات والفارق في تصوير شخصية مثل "جيهان" "راقية ابراهيم" الارستقراطية المتغطرسة المتعالية الرخيصة في تهافتها علي "الأمير" ومن شخصية "ناهد" "روحية خالد" السكرتيرة المعتزة بنفسها والتي جذبت الأمير واقترن بها في النهاية بسبب صدقها وثباتها الأخلاقي.
في بداية الفيلم وهو من انتاج 1938 وأول أول نيازي مصطفي "1911 ــ 1986" نقرأ أن جميع الأقمشة التي تظهر في الفيلم من انتاج شركة مصر للغزل والنسيج وشركة مصر لنسج الحرير "!!" فالفيلم من انتاج استوديو مصر "شركة مصر للتمثيل والسينما" التي أسسها الرأسمالي الوطني طلعت حرب عام 1935 مؤسس بنك مصر الذي آمن بالثقافة والفن وبالسينما واستثمر فيها جزءاً من رأسماله.
في "سلامة في خير" يمكن أن تلمح الفارق الهائل والدال علي حجم التطور علي مستوي البنية التحتية علي مدي 78 سنة وذلك بالمقارنة بين طريق مصر الإسكندرية الصحراوي الذي يبدو في الفيلم مثل شريط أسفلتي أسود وضيق ممتد وسط صحراء بلقع مترامية الأطراف. ونفس الطريق الآن الذي أصبح مدهشاً خصوصاً بعد التعديلات الأخيرة. ثم ماجري للصحراء علي جانبيه من عمار واخضرار ومنتجعات يسكنها الأثرياء والمحظوظون في انفصال واحد.
في فيلم "القلب له أحكام" "1956" وهو من اخراج حلمي حليم تلمح انحيازاً واضحاً للطبقة الشعبية ولقيم هذه الطبقة.. والفيلم بطولة فاتن حمامة وأحمد رمزي. قصة حب بين ساكنة بولاق. وساكن الزمالك. بين الفتاة الفقيرة طالبة الطب والفتي الثري ابن الذوات.
نتابع مقارنة عابرة بين الثراء الروحي والمرح والجدعنة وبين الغلظة والافلاس والتعالي من قبل الطبقة الثرية صحيح أن السينما حلت هذه المعضلة الاجتماعية باقامة جسور العواطف والمحبة وأعطت للبسطاء امتيازاً يظهر في فيض الكرم والاستعداد للعطاء والقدرة علي التحايل وهي أمور تجافي الواقع والقوانين الاقتصادية.
ولكن الانطباع الباقي انك كمتفرج أياً كان انتماؤك يظل مع الفريق الشعبي الذي تقوده امرأة شعبية رائعة غنية الروح "زينات صدقي" ظلت تلعب نفس الشخصية في "شارع الحب" و"أيامنا الحلوة" وأفلام كثيرة أخري.
المناخ العام الذي تشيعه هذه الكنوز يعكس حالة من التصالح المجتمعي وجسور تواصل بين فئات الشعب وشبكة علاقات حميمة بين الجيران الأمر الذي أصبح شحيحاً في المراحل المتقدمة وحتي الآن.
لا أعرف علي وجه الدقة ما إذا كانت الأجيال الجديدة التي أصبح كل واحد منها يمضي الساعات أمام الكمبيوتر ويحمل في جيبه ويده التليفونات الذكية. لا أعرف ما إذا كانوا يستطعمون هذه "الكنوز" ولكن من المؤكد أن جمهور أفلام "الأبيض والأسود" يشغل نسبة ليست قليلة من عشاق السينما المصرية علي امتداد العالم العربي ولكل المتحدثين باللغة العربية علي مستوي العالم.. أقول من المؤكد أن هذه "الكنوز الخالدة" تمثل ثروة كبيرة لأصحاب القنوات التي لا تبث سواها وأهمها "روتانا كلاسيك" والحفاظ عليها واعادة بثها مهمة جليلة من وجهة نظري.
كثير من البيوت التي ظهرت في أفلام الأبيض والأسود. تحولت إلي أنقاض منذ زمن .. وتم بيع بعض مكوناتها ــ الثمينة ــ مثل الحديد المشغول لسور البلكونات والبوابات والسلالم والتي تعتبر كنوزاً فنية بالفعل وتعكس مدي التقدم الحرفي لهذه الصناعات اليدوية في تلك الفترة وحتي بلاط الأرضيات المنقوش كان يباع في أماكن معينة لتجار "الخردة" وبأثمان عالية وكذلك معظم الأثاثات كانت تباع في المزادات. فالحمد لله أن السينما حافظت علي صورتها وعلي تصميماتها البديعة. والتي يعاد انتاجها حالياً في ورش خاصة لها زبائن يعرفون قيمة هذه الفنون.
** الحفاظ علي الذاكرة البصرية وإنعاشها من خلال وسيط الفيلم ضرورة للابقاء علي قيم الانتماء والأصالة.