لا تحتاج الأم إلى مناسبة للاحتفاء بها، كما لا يمكن أن يقتصر اهتمامنا والتعبير عن مشاعر الحب والامتنان نحوها، على يوم واحد فقط فى السنة، تم تفريغه من مضمونه الإنساني، بعد أن تحول إلى «موسم» للتجارة بأسمى عاطفة فى الوجود، ودفع بأجيال عديدة إلى أن تكتفى به كمناسبة، للسؤال عن أحوال «ست الحبايب».
لن نحظى برضا الله إذا لم ترض علينا هذه السيدة، صاحبة المقام العظيم، مقام الأمومة الذى يشبه ــ فى عطائه ــ عطاء «الربوبية»، لأنه بلا مقابل، وبلا منّ، ولكل الأبناء دون تمييز ولمن أحسن ولمن أساء، فالكل سواء فى دولة الحب والعطاء.
إن الأم هى وطننا الصغير الأول، الذى نفارق كنفه وأحضانه إلى الوطن الكبير، والمؤكد أن هناك حبلا سريا يربط بين الوطنين، وهو حبل لا ينقطع عن الذين يحسنون ويبرون أمهاتهم، أما الذين يسيئون ويجحدون فإنهم يقطعونه، دون احساس بالذنب. كم هو حلم رائع هذا الوطن الصغير، الذى لا يعرف حدودا، ولا يقيم أسوارا وسجونا، ولا يغلق أبوابا، ويمنح بلا شروط أو ثمن أو ضمانات، حق الإقامة لمن أراد، وحق العودة لمن خرج، وحق اللجوء العاطفى لمن ضل سبيله.
سلام عليك يا أمي.. سواء كنت شمسا مازالت تشرق، أم قُدر لها أن تغيب وتعود إلى مستقرها عند مليك مقتدر، وضع الجنة ـ تكريما وتعظيما ـ تحت أقدامها، ففى كل الأحوال تبقى صاحبة الحضور الذى لا يعرف الغياب، والزهرة التى لا تذبل ولا ينفد عطرها، ويظل وجهك دائما مثل رغيف خبز شمسى طازج، تقتات عليه الروح فى أوقات جوعها وشظفها وشحها.
ياسيدتى.. كلما أوغل العمر فى الرحيل، واتسعت ثقوب «غربال» الذاكرة، تسقط أشياء وآثار وعلامات وأحوال كثيرة، ولا يقاوم ولا يتأبى على النسيان والنضوب، إلا القليل من العزيز والنفيس، وهو ما لامس وسكن الروح، مثل نبع عذب عميق، تسرى مياهه فى عروقنا، حتى رمقنا الأخير: محبة صافية، وعطف دائم، وحنان فياض، وصفح جميل، وحماية إلهية مصدرها «دعوات» صدح بها قلب، لا تغلق أمامه أبدا أبواب السماء،وليس هناك فى الحياة نبع غيرك ياأمى.
> فى الختام.. يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «أدركتنى الرحمة بأمى فبكيت لها».