حلمى النمنم
كواليس صناعة المعارك الوهمية على شاشات الفضائيات
*أصحاب المصالح أشعلوا فتنة «أحمد عز» وقرار «العليا للانتخابات» حرمهم من حرق البرلمان
*مُلاك القنوات يستخدمون «شماعة» الرأى العام لتصفية الحسابات وإعادة ترتيب عقول المشاهدين
*المتربصون لأخطاء مقدمى البرامج يجرون المجتمع للانشغال بقضايا جزئية لتعويض الضعف المجتمعى
حين يصبح أمر مقدمة برنامج تليفزيونى هو الخبر الأبرز والحدث الأهم فى الصحف والمنتديات العامة، فهذا يكشف مدى ضحالة وخواء الجو العام، اختلاف البعض حول ما تقوله المذيعة شىء عادى، ما ليس عاديا أن يطالب فريق بمنعها، المفترض أن هذا شأن تحكمه القوانين وقواعد المهنة، وعندنا يحكم المسألة صاحب رأس المال، أقصد مالك المحطة أو القناة التليفزيونية، وفى الأعوام الأخيرة ترك مذيعون ومذيعات قنواتهم، وظلوا بلا عمل، وبعضهم الآخر ذهبوا إلى قنوات أخرى، فيما يشبه حركة تنقلات أو تباديل وتوافيق، وهناك من اختفى وطواه النسيان، وفى إحدى الحالات وجدنا مالك إحدى القنوات يتصل بمذيعة فى قناة ويقوم بتوبيخها على الهواء ويطالبها بالتوقف، ثم كان أن اختفت، ولم نسمع يومها من يتحدث عن الحرية، ولا عن قواعد العمل الإعلامى، اعتبر ذلك وكأنه شىء عادى أو شأن خاص بالمذيع والمذيعة مع مالك القناة.
الرأى العام أو فريق منه دخل على الخط فى السنوات الأخيرة، وباسم الرأى العام ومحاولة استرضائه أقدمت بعض القنوات على التخلص من مقدم أو مقدمة برامج لا تريدها، وفى بعض الحالات لم يكن للرأى العام دور كبير فى منع المقدم، بل يمنع لأسباب أخرى ويتم إحاطة ذلك بسياج اسمه مراعاة الرأى العام بالتأكيد منع مقدم برنامج بسبب رأى له أو حتى عرقلته عن أداء عمله بسبب رأيه مسألة يجب أن تكون مستهجنة ومدانة، لكن أن تصبح تلك هى قضية القضايا فهذا لا يدعو للتفاؤل، فى مجتمع مهموم بالمشاكل ولا يجد الفرد فيه أنبوبة البوتاجاز إلا بشق الأنفس، كان يمكن أن نتفاءل بالاهتمام العام بحرية المذيعة ومقدمة البرامج، لو أن الأمر تم دفاعًا عن الحرية بإخلاص، ولكنه جرى فى إطار الاستقطاب الحاد فى المجتمع، نحن هنا فى مباراة لا يريد طرف لآخر أن يسجل عليه نقطة أو يحرز فيه هدفًا، الحرية أكبر من ذلك وأوسع بكثير.
هذا الاهتمام يحمل عدة معانى ليست إيجابية، ربما تكون رغبة من البعض فى جر المجتمع بعيدًا عن همومه الكثيرة والعميقة إلى هذه المنطقة، هربًا من أسئلة حقيقية مطروحة أو يجب أن تكون مطروحة، وقد يكون ذلك الاهتمام المبالغ فيه غطاء لحالة من الإفلاس العميقة والخواء أو الضحالة الحقيقية فى الاهتمام بالقضايا الحقيقية، وربما أن الطرفين معًا يريدان فرض اهتمام خاص على المجتمع وأن يجعلا من مشكلة خاصة بهما، مشكلة المجتمع كله.
الفريقان المتنابذان إعلاميًا وحول الإعلام، كل منهما لديه مخاوفه العميقة، وتحولت هذه المخاوف إلى حالة من القلق والعدوانية تجاه ما يشعر أنه تهديد لموقفه، وهكذا إذا اشتط إعلامى أو احتد بكلمة، وهذا وارد، ثارت كل المخاوف وهاجت العدوانية، وتكون البداية ضرورة منعه من الكلام، وهناك منابر إعلامية مارست تحريضًا على العنف فى مصر وضد المصريين طوال شهور من قنوات إعلامية خارج مصر، وبسبب ذلك تكونت حساسية شديدة تجاه الإعلام والإعلاميين، ويتصور الخائفون أن من يشتط أو يحتد بكلمة أو حتى يقول رأيًا مخالفًا سوف يسير فى النهاية نحو التحريض على العنف والتخريب، وفى المقابل صارت هناك حساسية مضادة لدى فريق لديه مخاوف شديدة على الحرية.
أيها السادة إن اشتطاط مذيع أو مذيعة ليس نهاية العالم وليس ذلك ما يهدد مصر ولا يمكن أن يهزها، يهدد مصر التكاسل عن العمل وقلة الإنتاج، يهددها أيضًا أن نعيش على المعونات والمنح الأجنبية فيتحكم بنا كل من لا يستحق ولا يساوى، كلمة من مذيع أو مذيعة حتى لو كانت نابية لن تهز مصر وإلا لهزتها من قبل كتابات مسمومة بحق، وكذلك فإن الردود على مذيع أو مذيعة بطريقة حادة وعدوانية أو أسلوب فج ليس هذا هو التهديد الحقيقى والوحيد للحرية، هناك تهديدات وعوائق أخرى كثيرة للحريات خاصة الاجتماعية والإنسانية منها ومن يتحرك فى شوارع القاهرة يدرك ذلك، لكننا نحمل كل شىء على الإعلام، ومن أسف أن بعض الإعلاميين سعداء بذلك ولا يدركون خطورة تلك الحالة على العملية الإعلامية برمتها، بل وعلى المجتمع المصرى كله، ناهيك عن الأضرار الكبرى التى تلحق بالدولة المصرية من جراء اعتبار الإعلام هو كل شىء فى مصر.
المشكلة الأعمق أننا فى مجتمع ضعفت فيه قنوات التواصل والتعبير، ذلك أن الأحزاب يجب أن تحتوى المواطنين ليعبروا فيها عن آرائهم ويتخذون المواقف من خلالها، وكذلك الحال بالنسبة للجمعيات الأهلية وغيرها، لكن الأحزاب فى مصر ضعيفة للغاية وهى غير قادرة على احتواء أعضائها، فضلاً عن اجتذاب أعضاء جدد، والأهم من ذلك أن الأحزاب لا توفر منبرًا حرًا للتعبير وممارسة النشاط السياسى أو الاجتماعى، قل الشىء نفسه بالنسبة للنقابات والروابط والأندية وغيرها، ومن هنا بات الإعلام محملاً بالكثير من المواقف ويقوم بدور الحزب والنقابة والرابطة الاجتماعية وغيرها، ولم يعد الإعلام منبرًا لتقديم «المعلومة» أى يعلم المواطن، وللتعبير عن الآراء والأفكار المتباينة، بل صار وسيلة لاتخاذ موقف ما سياسيًا أو اجتماعيًا ووسيلة للاستقطاب، من هنا صار التركيز عليه شديدًا وتضخم دوره واتسع نطاقه، وفى حالات ليست قليلة غاب دوره الأساسى والفاعل، أى تقديم المعلومة والفكرة والرأى، وكثرت المعارك التى يدخلها الإعلام، بل يصنعها، مثل معركة أحمد عز وترشيحه للبرلمان، هذه مسألة تحسمها الأحزاب ويضبطها قانون ممارسة العمل السياسى، ولو أن هناك حياة حزبية حقيقية لوجدنا حزبًا يقدم مرشحًا منافسًا لأحمد عز وفى نفس الدائرة وتكون معركة حقيقية يمكن أن تمحى وجود عز سياسيًا، وهناك الحل القانونى والقضائى، لكن المعركة بدأت من الإعلام، وقضينا أسبوعًا كاملاً احتل فيه أحمد عز الصفحات الأولى من معظم الصحف، وهو المادة الأولى لمعظم برامج «التوك شو»، ولم ينقذنا من هذا سوى حكم المحكمة الدستورية، الذى أدى إلى تأجيل الانتخابات برمتها، وما أن تنفسنا الصعداء، من ملف أحمد عز، حتى ظهرت لنا مشكلة برنامج مقدمة البرامج التى أثارت المجتمع كله.
أعرف أن البعض أخذ يضج من برامج التوك شو ومن بعض مقدمى ومقدمات البرامج، ولا يجب أن نندهش من ذلك، الأمر هنا أشبه بالبورصة، معرض للتقلبات المزاجية والمعلوماتية، وهو مرتبط كذلك بحالة الانشغال العام فى قضايا جزئية، وأحيانًا شكلية، وإهمال أو تجاهل لقضايا أخرى كثيرة وعديدة، غير أن هذه الحالة سوف تستمر لفترة، وسوف نبقى أسرى معارك أو مناوشات من هذا النوع، ومعارك أشبه بمبارزات الديكة فى العصر المملوكى، ولكن حين ينهض المجتمع وينشغل بقضايا حقيقية ويكون لديه مشروعًا وطنيًا وإنسانيًا حقيقيًا يلتف حوله، سوف تخفت حدة المعارك الصغيرة.
إعلاميًا نحتاج لبعض القواعد التى تضبط الكثير من الممارسات وتضمن حق الإعلامى والقارئ والمشاهد، بلا عدوان على حرية أى منهما، وبما لا يحمل العمل الإعلامى بأدوار تخرج عن حدوده واختصاصه، الإعلام أولاً وأخيرًا هدفه المعلومة ثم تقديم الأفكار المتباينة، وإشاعة جو الاختلاف الصحى، لا الاستقطاب ولا التنابذ الحاد، وهذا ما يعمق الحرية فى المجتمع، الحرية للمجتمع كله.