يسرى عبد الله
العقل المتطرف وتدمير العالم
حين ذهبت والدة أحد الضحايا من الجنود الفرنسيين الذين قتلهم الإرهابى محمد مراح، الذى كان يحيا فى حى تولوز، حاملا الجنسية الفرنسية مع جنسيته الأصلية، لترى السياق الحاكم لقاتل ابنها وآخرين، من بينهم معلم وتلاميذه الصغار، فوجئت بأن عددا من شباب الحى الذى عاش فيه مراح، يعتبرونه شهيدا، وجميعهم يحصلون على مزايا العيش فى دولة تحمل إرثا عريقا وخلابا فى الحريات بتجلياتها المختلفة، صدمت الإجابة السيدة، التى كانت عربية مسلمة بالمناسبة وقررت أن تنهج نهجا عمليا فى تصحيح المفاهيم الناتجة عن الفهم المغلوط للنص الدينى عبر مؤسسة أهلية أنشاتها. ربما تحمل الواقعة الدالة السابقة مفتاحا أساسيا فى فهم الأجواء الكابوسية التى تصاحب عالما على شفا التداعى والجنون، تحكمه تصورات مرسلة عن المقدس، وترتبط به ارتباطا راسخا، بحيث أساءت إلى الإسلام ذاته من جهة، وستحاصر أتباعه وتضعهم فى خانة الشك والارتياب فى أحسن الأحوال من جهة ثانية. وفى الحى الشهير فى بلجيكا، صاحبة الحظ العثر فى الاعتداء الإرهابى الأخير، مولنبيك، الذى يعرف بحى الجهاديين فى أوروبا، والذى دفع لداعش بعشرات من أبنائه من ذوى الأصول المهاجرة، الذين استقروا فى بروكسل، وتعلموا فى مدارسها، ولم يتخلصوا من الوعى الماضوى الذى ظل ملازما لهم، عبر شيخ متشدد أحيانا، مثلما حدث مع أحد الشيوخ الذين عادوا إلى سوريا للقتال ضد الجيش السوري، وعلى الرغم من رفضه لداعش وقتاله لها، فإن الأيديولوجية السلفية مظلة حاكمة لكليهما، وفى فرنسا فجرت امرأة للمرة الأولى نفسها، وهى فتاة فى العشرينيات من عمرها، وحسب تقارير إعلامية فرنسية فإن الانتحارية حسناء آية بولحسن، تقيم فى فرنسا، ولا تعانى بطالة أو فقرا، حيث كانت مشرفة على إدارة شركة عقارية صغيرة فى منطقة قريبة من الحدود مع بلجيكا، وهى ابنة خالة البلجيكى ذى الأصول العربية عبد الحميد أباعود المشتبه به الأول فى التدبير لهجمات باريس الإرهابية، أما المثير لعشرات الأسئلة فما طرحته التقارير الإعلامية الفرنسية المتناثرة من أن علاقة الانتحارية بهذا الإرهابى لم تكن كفيلة بإثارة الشكوك حولها، بل لتورطها فى قضايا تهريب مخدرات فى البداية، وذلك قبل ظهور مؤشرات فى الفترة الأخيرة على تورطها فى أنشطة إرهابية!.
واللافت أن هناك تحولات درامية فى حياة هؤلاء الانتحاريين، ففى غضون شهور قليلة يتحولون إلى إرهابيين خلص، بدعم من شيوخهم المتشددين، أو من يتولون إعدادهم نفسيا لتقبل القتل بوصفه قربانا إلى الجنة!!. إن الإرث المتشدد الذى خلفته الجماعات الدينية المتطرفة قد استشرى فى مناطق عدة من العالم، ولم ينج منه العالم المتقدم ذاته، لا لشيء إلا لأنه قد جعل من نفسه أرضا خصبة تنمو عليها الأعشاب السامة، ظنا منه أنه قادر على إحكام القبضة عليها، وإرجاعها إلى منبتها الأصلى وقتما يشاء، لكن ما حدث أن الإرهاب الذى أسسته جملة من القناعات الزائفة حول المقدس، والنهل من تراث خارج اللحظة والتاريخ، وممارسة دموية تمجد القتل، وتسبغ عليه القداسة، وشاركت فى دعمه وتمويله دول ومؤسسات رجعية، بمباركة كاملة من الإمبريالية العالمية، فى إطار صيغة التحالف المشبوه بين الرجعية وقوى الاستعمار الجديد التى تبغى الهيمنة على العالم. وفى هذا السياق المربك من اختلاط الأوراق، وتقاطعها، كيف يمكن قبول أن نسمع عن أن إرهابيين ثارت حولهم الشبهات، سواء فى أماكنهم فى أوروبا التى آوت الكثيرين منهم، والآن تدفع ثمنا باهظا، أو عادوا من حروبهم المقدسة مع أى جماعة دينية فى أى مكان فى العالم، نسمع عن توقيف لهؤلاء ثم تركهم، ثم تأتى المفاجأة بانضمامهم من جديد إلى داعش أو جبهة النصرة أو بوكو حرام، أو القاعدة، وقيامهم بالعمليات الانتحارية، غير أن التحول المركزى هذه المرة أن العصاب الدينى الذى أصاب العقل المتطرف يمضى صوب تمكين فكرة الخلافة فى أوروبا نفسها وعلى جثث المئات من أبنائها، وبما يعنى أن الكل قد صار فى مركب واحد باختصار، لكن قوى الهيمنة على العالم التى تدير الأمر من خلف ستار، ستجد نفسها الآن فى مأزق، فالقتل باسم المقدس لم يتوقف قط عند جماعة دون غيرها، والهجمات الإرهابية لم تعد تفرق بين دولة نامية وأخرى متقدمة، أو بين دولة مؤسسة للحريات، ودولة تعانى مشكلات بإزائها.
لقد أصبح الكلام عن حتمية أن يفيق العالم، من قبيل الرطان، لأن العالم فى حربه على الإرهاب ليس كتلة واحدة، ولا يعبر عن ضمير إنسانى وقيمى حقيقي، فثمة ممولون، وثمة رعاة استخباراتيون، وثمة مؤسسون للأفكار المتشددة، و المحصلة النهائية أن خطر الإرهاب الدموى يتغول، وجماعات تمجيد الدم باسم الدين، تستقطب أنصارا من الموتورين، والمنسحقين، وفارغى العقول، ومشوهى الوعى والروح، وكثير من العالم المتحضر يتفرج، وبعضه يشارك صمتا أو مظلة حامية، فضلا عن دول إقليمية هنا أو هناك تريد أن تلعب دورا تارة، أو تستفيد من رعاية القوى الكبرى للإرهاب تارة أخري، ومن ثم فعلى الضمير الإنسانى أن يدرك مأزق العالم جميعه الآن، وعلى النخب التى لم تقدم خطابا داعما لجماعات العنف الديني، ولتجار السلاح، أن تقدم تصورات جديدة، وعلى الرأى العام فى كل المجتمعات الحية أن يدرك أن نجاة البشرية من عصابات الانتحاريين، وسبى النساء، وقتلة الأطفال، أصبح حتمية تاريخية وواجبا إنسانيا وأخلاقيا فى آن.