أحمد عبد التواب
متى يطلب البرلمان وقف المعونة الأمريكية؟
يُستحسَن أن نتذكر واقعة إجبار بيل كلينتون، فى مرحلة تشكيل أوباما لفريق إدارته، على أن يمتنع عن تلقى تمويل أجنبى لبعض نشاطاته، ومن المهم استعادة منطق من أجبروه على الامتناع. وذلك حتى نحسم جذرياً موضوع التمويل الأجنبى لنشاط الجمعيات والمؤسسات الأهلية فى مصر، ما دام أن البعض يُفحِمهم أكثر أن تكون الحجة متطابقة مع الأقوال والممارسات الأمريكية, وأيضاً حتى لا نتورط فى مزيد من المجادلات حول تقدير ما تقوم به بعض الجمعيات والمؤسسات التى يثور حول نشاطها خلاف كبير من آن لآخر.
كانت المشكلة الكبرى أمام أن تتولى هيلارى كلينتون منصب وزيرة الخارجية فى إدارة أوباما أن زوجها، الرئيس الأسبق بيل كلينتون، له بعض النشاطات التى يتلقى لها تمويلاً أجنبياً، وهو ما رأى قادة الحزب الديمقراطى، أصحاب الكلمة القوية فى تشكيل الإدارة، أنه يتضارب مع مسئولية منصب هيلارى! فكيف تتحرر من حسابات زوجها الذى يهمه أن يُرضِى مموليه الأجانب، أو على الأقل أن يراعى مصالحهم فى نشاطه؟! مما يلقى بشبهة أنها ستضع حسابات زوجها فى خلفية قراراتها ومواقفها التى تتسع على مدى العالم.
لذلك اضطُر بيل كلينتون إلى أن يمتنع عن تلقى التمويلات الأجنبية لكى يزيل العقبة الكبرى فى سبيل ترشيح زوجته لما يلبِّى طموحها. وأما فى مصر، وحيث لا أرقام دقيقة يمكن الاتفاق عليها، فإن الإحصاءات متضاربة عن عدد الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ولكن، وفى كل الأحوال، فهى تُقدَّر بعشرات الآلاف. يُقال 40 ألفاً، ويُقال نحو 50 ألفاً، ويُقال بل 53 ألفاً. وأما المتخصص منها بحقوق الإنسان، فيُقال إنها نحو 200 جمعية. وأما العدد المثار حوله المشكلة، فهو لنحو 40 منها. ما لا يرقى إليه أى شك، هو أن الأغلبية الساحقة من العاملين فى هذه النشاطات شرفاء مخلصون فى مهمتهم، ولم يُثر حولهم شوائب، لا على نشاطهم ولا على أمورهم المالية، كما أنهم ملتزمون بالقانون المنظم لعملهم: القانون 84 لسنة 2002، ولائحته التنفيذية.
وأما القلة القليلة التى تثور حولها المشكلة، فإن القضاء لم يحسم بعد اتهامها بخرق القانون ولائحته التنفيذية، سواء فيما يتعلق بممارسة النشاط أو فى تقبل التمويل، خاصة الخارجى، الذى حددت اللائحة التنفيذية المذكورة ضوابط صارمة له. وزاد من المشكلة أن بعض الجهات الأجنبية الممولة تعلن صراحة أنها تتستر، بشكل عام، على تمويلاتها بزعم حماية متلقى أموالها، فى عدة دول، من مشكلات يتعرضون لها فى بلادهم.
أضف إلى ذلك، وهو الأهم، أن بعض العاملين فى هذا المجال، علا صوتُهم فى السنوات الأخيرة عن انتهاك الدولة للحريات التى طالبت بها الثورة والتى نص عليها الدستور فى آخر طبعاته، ولا ينبغى أن يكون هناك أدنى ملاحظة على علو صوتهم، ولكن النقد الموجه لهم أن عملهم، الذى لا يمكن أن ينجزوه إلا بالتمويل الأجنبى، صار مادة يقدّمونها إلى الجهات المموِّلة لتعيد بدورها ضخها مرة أخرى، أحياناً بنفس العبارات، وبنفس ترتيب الحجج! بما يلقى شبهات على أن الممول يكلف المتلقى بأعمال يحتاجها الممول فى أغراضه! أو أن المتلقى يضبط نفسه على وتيرة الممول دون تعليمات (وهو ذات المنطق الذى أذعن له بيل كلينتون). ثم أن تكون هذه الخلاصة فى سياق الحملة الدولية المتناغمة من قوى شتى تسعى لحصار الحكم الذى اختاره الشعب لتصفية تجربة جماعة الإخوان.
وأما تناقض هذه الجهات الأجنبية المموِّلة، التى تزعم أن نقدها الحاد لمصر مبدئى، فيتجلى فى أنها تغضّ الطرفَ عن أقصى انتهاكات من دول أخرى، لا تعرف معنى المساواة، وتمتهن كرامة المرأة فى قوانين مُشهرَة، ولا تعترف لاصحاب المذاهب الأخرى والأديان الآخرى بأى حقوق، ولا تعرف معنى أن يكون هناك برلمان يُمثّل الشعب، ولم يشارك شعبُها فى أى انتخابات عامة عبر تاريخه، ولا تعرف اختراع الدستور، وينظم قانونها العام وأعرافها السائدة أشكالاً من العبودية فى القرن الحادى والعشرين، وليس هناك خلاف على جرائمها بقتل مواطنيها وتعذيبهم بطرق العصور البائدة، كما أنها تدفع بميليشيات مسلحة هدامة تُطبِّق أكثر الأفكار همجية وتحيل حياة شعوب أخرى إلى جحيم حقيقى..إلخ والغريب أن المصريين الذين يَمدّون هذه الجهات بمادة تهاجم بها مصر، لا ينظرون إلى تناقض هذه الجهات التى تمدهم بالمال، ولا يستخلصون من هذا أن مصر مستهدفة وأنهم يعينون على تحقيق المستهدفات! ولا يهمهم كثيراً أن يدققوا بياناتهم التى يعتبرونها حقائق، بل إنهم لا يبدون إحساساً بالحرج! واضح أنه من الممكن أن يستمر هذا الارتباك إلى أمد غير منظور، ما دام أن القانون يجيز من ناحية المبدأ تلقى تمويل من جهات أجنبية، مهما تكن الضوابط التى ينص عليها. وقد يكون الحل من شقين: أولاً، أن يجرى تعديل القانون ولائحته بما يمنع مطلقاً تلقى تمويل خارجى، كما تقرّ تشريعات بعض الدول، مع وجوب رفع القيود الأخرى التى تعرقل نشاط هذه الجمعيات والمؤسسات. وثانياً، تشجيع التمويل الوطنى، على أن توضع الحوافز الضريبية وغيرها لحثّ المواطنين على التبرع. وأما الخطوة الكبرى التى يؤمَل أن يتخذها مجلس النواب، أو أن تتقدم بها الحكومة، فهى المبادرة بطلب وقف تلقى المعونة الأمريكية. أولاً، لكى تُحرِّر الدولة نفسها من شبهة التبعية، وهى تعمل على تحرير مواطنيها. وأيضاَ، لدرء إمكانية أن تبادر أمريكا بهذه الخطوة، خاصة مع تكرار أصبح مهيناً للكرامة الوطنية كلما لوَّح الكونجرس والصحافة الأمريكية بقطع المعونة عن مصر. ولا ننسى أن أحد النشطاء المصريين فى مجال حقوق الإنسان، ممن يتلقون من الخارج دعماً مالياً سخياً، طالب بنفسه من الرئيس دبليو بوش بوقف المعونة. وكان آخرها افتتاحية نيويورك تايمز الجمعة الماضى تتحدث فيها بلا مواربة عن أن الوقت حان لإعادة التفكير فى علاقة أمريكا بمصر!
والحقيقة الأوجب بالانتباه إليها هى أن الوقت حان بالفعل، ولكن لكى تعيد مصر التفكير فى علاقتها بأمريكا، ليس باستعادة العداء فى عهد عبد الناصر، ولا بالسعى للتماهى الذى كان على يدى السادات ومبارك، ولا بالانسحاق على طريقة جماعة الإخوان، ولكن بأنصع بيان وموقف يحرص على أن تكون العلاقة طيبة على أساس احترام استقلال القرار المصرى. مع الاستعداد بكامل الإدراك إلى أن هذا لن يُرضِى أمريكا!