الوطن
د. محمود خليل
العقل «زينة»
عندما تتكاثر على الإنسان المشاكل يكون فى أحوج الحاجة إلى ما اصطلح على تسميته «الثبات الانفعالى»، وتتعاظم هذه الحاجة كلما كان الفرد مسئولاً عن مجموعة من البشر، لأن عدم ثباته فى هذه الحالة لا يضر به وحده، بل يمتد أثره إلى غيره. والبشر أياً كانت درجة القوة النفسية التى يتمتعون بها، أحياناً ما يقعون فى شرك الغضب. يحكى القرآن الكريم حالة الغضب التى انتابت نبى الله موسى عندما عاد إلى قومه من ميقات ربه، فوجدهم يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً. يصف القرآن الكريم هذا الموقف فى قوله تعالى: «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنْ بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين»، وعاد موسى إلى حالته الطبيعية بعد أن سكت الغضب.

لا خلاف أن الغضب ضد الأمور الجلل مطلوب، وبالتالى فقد كان غضب «موسى» (عليه السلام) مبرراً، فماذا يفعل أمام قوم يشركون بالله، بعد أن أخذ بأيديهم إلى الطريق المستقيم، وغضبة الإنسان من أجل وطنه مبررة، وغضبه من أجل حقوقه فى الحياة مبرر، وغضبه فى الحق مبرر. نحن نتحدث عن العصبية أو عدم السيطرة على الانفعالات أمام المشكلات والأزمات التى يصح أن تحاصر الإنسان فى لحظة من اللحظات. الإنسان هنا مطالب بأن يكبح جماح غضبه، وأن يلوذ بثباته الانفعالى، حتى يستطيع التعامل مع المشكلات بصورة عقلانية؛ لأن الانفعال يؤدى إلى سوء الفعل، والفعل السيئ أو القرار غير الراشد ليس بمحمود العاقبة.

يحتشد المشهد الذى نعيشه هذه الأيام بأشخاص يبدون عاجزين عن السيطرة على زمام «انفعالاتهم». أحدهم على سبيل المثال لا يستطيع أن يمسك لسانه، فيطلقه على الآخرين بسلاطة ووقاحة، دون أن يميز بين ما يصح قوله وما لا يصح فى المواقف المختلفة، فتجده لا يفرق بين أحاديث المقاهى والمصاطب، وما ينبغى أن يقوله فى البرامج التليفزيونية. وآخر رأى عشرات الآلاف من البشر يمنحونه صوتهم فى الانتخابات، فغرته الأمانى وأخذ يفكر فيما هو أبعد من كرسى فى مجلس النواب إلى رئاسته، كيف لا والرجل يرى فى نفسه مفجراً لثورة شعب؟!

النجاح غير العادى -أو قل غير المستحق- هو أقصر الطرق لفقد الثبات الانفعالى.

لقد كان الرئيس السادات -بعد نجاح ثورة يوليو 1952- يخشى أن تكون النتائج التى تحققت أكبر من الحلم الذى تخاطر فى أذهان «الضباط الأحرار». الرجل كان حكيماً فى هذه النظرة، لأن الدنيا عندما تمنح الإنسان تحقيقاً أو إنجازاً يفوق قدراته، فإن طريقه إلى فقد الثبات الانفعالى يصبح مفتوحاً، وبالتالى يكون تحقيق الهدف هنا هو بداية النهاية، لأن القرارات والأفعال والسلوكيات فى هذه الحالة تنطلق من منصة النفس وليس منصة العقل، والمشكلة أن النفس أمارة بالسوء، فى حين أن العقل زينة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف