والقصة تحتاج إلي قرار سيادي أساسي، وإلي قرار وطني من كلمة واحدة هو «تصنيع» البلد
لا بأس بإعادة وزارة خاصة بقطاع الأعمال العام، فقد يوحي التصرف برغبة جادة في إعادة اقتصاد الدولة، وإن كانت المخاوف تطل برأسها، والجواب يبدو ظاهرا من عنوانه، فقد اختاروا للوزارة المستعادة رجلا من عالم البورصة، وليس من عالم الصناعة، وهو ما قد يشي بميل للتصرف فيما تبقي من شركات القطاع العام، وليس إنهاضها من عثراتها، بل بيعها في البورصة، وبدعوي توفير التمويل، وهو ما أشار إليه شريف إسماعيل رئيس الوزراء المعين من قبل الرئيس السيسي.
ولا حاجة للتذكير بأنها ذات السياسة التي أهلكتنا، وقادتنا للجحيم الذي نعيشه، وأدت إلي تصفية قلاع صناعية كبري، وإلي خصخصتها و»مصمصتها»، علي طريقة ما جري لمصانع «المراجل البخارية» التي صارت أثرا بعد عين، وإلي «شركة النصر لصناعة السيارات « التي تحولت إلي خردة في مخزن، وإلي «طنطا للكتان والزيوت» التي توقفت تماما، وإلي محالج القطن، ومئات المصانع التي دخلت في باب الذكريات، فوق إصابة غالب ما تبقي بالشلل الرباعي، وتحطيم قلاع «المحلة للغزل والنسيج» ومصانع الحديد والصلب ومجمع الألمونيوم ومصانع «كيما» و»قها»، وغيرها الكثير الكثير، والتعامل مع القصة كلها كعبء يحسن التخلص منه، وبديونه الثقيلة لبنك الاستثمار القومي التي وصلت إلي تسعين مليار جنيه، وبعمالته الفنية التي يجب التخلص منها بالمعاش المبكر علي طريقة المرحوم عاطف عبيد، ثم يتقدم «العباقرة» بالحل، وبالروشتة إياها، وهي التقسيم بالجداول إلي شركات خاسرة لابد من تركها لمصير الموت، وشركات رابحة نبيعها بتراب الفلوس، إما ببيعها لمستثمر استراتيجي علي طريقة ما كان يجري أيام مبارك المخلوع، ثم اكتشاف أن هذا المستثمر الاستراتيجي ـ الأجنبي غالبا ـ ليس سوي «سارق» استراتيجي بعد فوات الأوان، وبعد ملء البطون والجيوب بالعمولات، والخضوع لابتزاز «السارق الاستراتيجي»، وقرارات التحكيم التجاري الدولي، وهي بعض ما أعاق تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية العليا النهائية برد ممتلكات وشركات ومصانع الدولة والشعب إلي الآن، وصدر من أجله قانون تحصين العقود ـ الفاسدة ـ في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور، أو التصرف هذه المرة بطريقة تلبس قناع البورصة، وطرح الشركات والبنوك العامة الرابحة في مضاربات البورصة، وهي طريقة «خصخصة» متحايلة لجأ إليها المخلوع في سنواته الأخيرة، ويراد تكرارها الآن ضحكا علي ذقون الناس، وقطع ما تبقي من الطريق إلي الخراب المستعجل، ومقابل إنعاش موقوت في موارد الخزانة العامة المنهكة، والإيحاء الوهمي بوجود تحرك ما، بينما تبيع الدولة أصولها، وتزداد ملايين العاطلين في طابور البطالة المتضخم أصلا.
والمسألة أخطر من أن تترك في يد وزير «بورصوي»، أو حتي لقرارات رئيس الوزراء الذاهب حتما بعد حين، وهي معلقة بالذات في رقبة الرئيس السيسي، والذي يبدي حماسا وإعجابا وانبهارا بتجربة النهوض الصيني الصاروخي، وهو علي حق، لكن التجربة الصينية ليست مجرد جذب هائل لاستثمارات أجنبية وتكنولوجيا متقدمة، بل في التجربة الصينية ملمح آخر أهم، ففيها أكبر قطاع عام صناعي في الدنيا كلها، ولا يصح البحث عن احتذاء التجربة الصينية بمستشارين من هوي أمريكي فاقع، ومن مدرسة الاقتصاد المعروفة دوليا باسم «مدرسة شيكاغو»، ومن التلاميذ التافهين لوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، وعلي طريقة أغلب المستشارين الاقتصاديين المحيطين بالرئيس السيسي، أو سواهم من المستجلبين لإدارة وزارات الاقتصاد في الحكومة الحالية، وهم من موظفي البورصة، أو من «الخدم» التابعين لشركات مليارديرات النهب، فالدولة ليست شركة خاصة، الدولة التزام وخطط وتصورات نزيهة كفؤة ومسئولة، واستعادة وإحياء قطاع الدولة الصناعي له طريق آخر.
والقصة تحتاج إلي قرار سيادي أساسي، وإلي قرار وطني من كلمة واحدة هو «تصنيع» البلد، ولا أحد يصادر ـ أو يريد المصادرة ـ علي أي جهد صناعي للقطاع الخاص، وقد أتيحت له الفرصة طويلا، ودون إضافة أي معني صناعي يذكر إلا فيما ندر، وعلي طريقة «رأسمالية الشيبسي»، فالمسيطرون علي السوق هم أباطرة «القطاع الماص» لا القطاع الخاص الوطني، ومواصلة الاعتماد عليهم لا تعني سوي التقدم إلي الخلف، وتكرار الخيبات الثقيلة ذاتها، واستئناف دورات النهب التي لم تتوقف، وترك الدولة فريسة لاقتصاد «الريع» كالسياحة وغيرها، أو اقتصاد تسول المعونات، والمعرض بطبيعته للإفلاس والنضوب كما يجري الآن، وما من حل صحيح سوي إحلال اقتصاد الانتاج، اقتصاد المصنع والمزرعة والمعرفة، واقتصاد المصنع بالذات، وهو ما لا تنهض به في ظروفنا غير الدولة واستثماراتها العامة، واللجوء إلي التمويل الشعبي بالاكتتاب العام، ونسج روابط «العروة الوثقي» بين الصناعات المدنية والصناعات العسكرية، فقد قامت في مصر ثورة صناعية كبري في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ثم جري التجريف المخيف بعد حرب أكتوبر 1973، مع انفتاح «السداح مداح»، وتخريب ثم تصفية القلاع الصناعية الكبري في زمن الخصخصة و»المصمصة»، وما من خيار لهذا البلد سوي البدء من جديد، ومن قواعد صلبة قليلة تبقت ونجت من الهلاك، فقد جري إنقاذ قلعة تصنيع كبري هي «الترسانة البحرية» بضمها للجيش، وبرزت وزادت أدوار صناعية وإنتاجية وإنشائية لهيئات الجيش، خصوصا في «الهيئة الهندسية» و»إدارة الأشغال» و»جهاز الخدمة الوطنية»، وتشهد مصانع «الإنتاج الحربي» و»الهيئة العربية للتصنيع» ازدهارا غير مسبوق من عقود طويلة، وما من حل ممكن، سوي بدمج ما تبقي من شركات ومصانع القطاع العام مع الهيئات الناهضة الآن، وبناء مجمع صناعي عسكري مقتدر، وتطوير التكنولوجيا وخطوط الإنتاج، واعتماد سياسة التصنيع الشامل من الإبرة للصاروخ، وتوجيه الموارد المتاحة لتشييد المصانع، لا استهلاكها بالإفراط فيما يسمي مشروعات «البنية الأساسية».
وقد طلب الرئيس السيسي من كل مصري أن «يصبح علي مصر بجنيه»، ونحن بدورنا نطلب من الرئيس أن «يصبح علي مصر» بمصنع، وليس بطريق أسفلت.