قال عجوز السبيل: فى البدء كان «السّبيل» ملجأ الفقراء والمساكين وعابرى السبيل. لم يغلق بابه فى وجه أحد. هنا اختبأ السلطان (طومان باى) من جيش الترك، جيش السلطان سليم يوم اجتاح البر. ظل يقاوم مع الأهالى إلى أن قبضوا عليه، وشهد الجميع مصرعه. كان النسوة يصرخن، والرجال يدمعون، والصغار حائرون. بعدها حكمنا الترك. ثم كان الفارس أحمد. أحمد بن طولون الذى شيد المسجد والمدرسة والمستشفى من أجل الجميع. من هنا حكم مصر. من مدينة القطائع. شيد مسجده على طراز فريد يضاهى مسجد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأخذ يتباهى بذلك. فدعت عليه وعلى مسجده فاطمة النبوية من أهل البيت. دعت على مسجده بانقطاع الماء، وأن يقبر فيه. وقد كان!. جفت البئر بالمسجد فما كان وضوء، ولا كانت صلاة حتى يومنا هذا!. كان الفارس يصعد إلى «مدنة» مسجده بجواده كل يوم، ليشهد القاهرة من أعلى. وفى السفح يقف الناس حول المسجد يتفرجون، إلى أن صعد مرة، فطار به الجواد ولم يعد إلى اليوم. ولكنه سيعود. ابن طولون سيعود. سيعود.
- «ولو عاد.. ماذا سيفعل يا عجوز السبيل؟
(قالها أحدهم وانصرف الجميع عنه).
كان «عجوز السبيل» أول إنسان تراه عندما تدخل شارع السبيل. دائماً جالس عند مدخله ينظر إلى الداخل والخارج. يعرف الجميع والجميع يعرفونه. مل الناس من حساب عمره. كان عمره من عمر الزمن. البعض يقول إن عمره من عمر السبيل. وآخرون يزعمون تندراً أنه ابن السيدة «أم الخديو» التى أنشأت السبيل. على بوابته تجده جالساً، وفى ظلامه يبيت. يعلو وجهه وملابسه التراب الذى يعلو السبيل. لا يتحدث «عجوز السبيل» إلا عن الماضى الذى كان يمتلكه وحده. لا يشعر بالزمن ولا يشعر الزمن به. يحيا فى الحاضر بجسده فقط، بأنفاسه التى تصعد وتهبط ببطء. أما عقله وروحه فمشدودان إلى الماضى.
فى مدخل شارع «السبيل» يشخص مبنى سبيل «أم الخديو» شامخاً، تتراص أدواره فى حكمة وجمال فوق بعضها البعض، يحتوى كل دور منها على عدد من الغرف فيما يشبه الفندق. فى الدور الأول مجموعة من المطابخ الكبيرة، كان يعمل بها عدد من الطهاة فى الزمن الفائت. ومدخل السبيل أجمل ما فيه. عبارة عن فناء متسع يكسو أرضه الرخام، وحيطانه الرسوم والزخارف، وتنتشر به الأعمدة المرمرية. كان الفناء مسرح الأحداث والحركة فى السبيل. يمتد السماط به وتنشر عليه ألوان الطعام لمن أراد أن يطعم. تتشابك الأيدى فى معركة لا تنتهى إلا مع انتهاء الطعام ولهاث الأنفاس من الشبع.. كان ذلك فى الزمن الماضى!
ماء السبيل تعطره رائحة الورد. وتصطف الأزيار فى كل جانب منه كأنها حرس ليلى.
«أم الخديو» التى نشأ السبيل على يديها، وعاش باسمها، مصرية الروح والهوى، أرادت أن تسقى الظمآن، وتطعم الجائع، وتنشر العلم بين البسطاء، فشيدت السبيل، طلباً للثواب، واستجلاباً للدعاء، عاشت بيقين أن الإنسان يموت ويبقى الأثر، وذهبت هى وبقى هو!