لست خبيرا اقتصاديا، ولم أدرس الاقتصاد، وأكتفى منه بمعرفة عامة وفهم لا بأس به لبعض قوانينه ومصطلحاته ومفاهيمه الأساسية، ولا أعتبره من اهتماماتى الرئيسية، ولا أنتوى أن أجعله كذلك، وأقبل بكل سرور أن يصوب الخبراء ما أطرحه إذا جانبه الصواب. عندما أستمع إلى حديث محافظ البنك المركزى طارق عامر، وهو يؤكد للمذيعة لميس الحديدى بمنتهى البساطة: إن الدولار سينخفض سعره إلى أربعة جنيهات عندما تصير البورصة المصرية قوية، وإن هذا يعد أمرا يسيرا يجب أن نعمل على تحقيقه لكى نتخلص من تلك المشكلة المزمنة، وكأنه إجراء يتم فى الفراغ بمعزل عن السياسات الاقتصادية للدولة، ودون أن يكلف خاطره ويشرح للناس كيف ومتى يمكن لنا القيام بهذا، فالأمر هنا يدخل تحت بند الضحك على الذقون.
كأنما تقوية البورصات المالية يحدث بضغطة على زر يتعامى الجميع عن وجوده، رغم أنه يقع تحت أعينهم! لدرجة أننى ظننت سيادته لا يدرك، كغير المتخصصين من أمثالى، أن البورصة ليست أكثر من سوق للأوراق المالية والأسهم والسندات، وأن ارتفاع سعر العملة الوطنية وانخفاضها يتعلقان فى نهاية المطاف بقوة الاقتصاد الوطنى الذى يتمثل فى زيادة الصادرات، من الموارد الطبيعية والصناعية والزراعية وغيرها من مصادر الدخل، مقارنة بقلة الواردات. باعتبار أن هذا هو العامل الحاسم الوحيد الذى يؤدى إلى زيادة ما يصب فى خزينتنا العامة من العملات الصعبة، دون أن نقترض أو نتسول، مقارنة بإنفاقنا على الواردات. بما يؤدى بدوره إلى زيادة المتاح من العملات الأجنبية لدينا، ومن ثم إلى تراجع الطلب على شرائها بالعملة المحلية فتنخفض أسعارها. التغاضى عن ذلك الشرح المنطقى يجعلك مثل مدرب فريق كرة القدم الوطنى الذى يؤكد للاعبيه أنه يضمن لهم الفوز بكأس العالم عندما يصبح فريقهم قويا! مكتفيًا بتلك العبارة الهلامية الفضفاضة دون أن يشرح رؤيته فى كيفية الوصول إلى ذلك الهدف على أرض الواقع، ودون تبصيرهم بنقاط الضعف ومكامن الخلل.
أعرف أن محافظ البنك المركزى لا يضع السياسات الاقتصادية للدولة، ولكنه يجب أن ينبه ويحذر ويقترح، متحليًا بالأمانة عندما يتناول شرح الموقف المالى للخزينة العامة التى يمسك بمفاتيحها، وأن يقوم بتشخيص المرض بدقة وأن يقدم الاقتراحات والتوصيات الضرورية اللازمة للعلاج حتى ولو أهملتها السياسات المعلنة للدولة. لأن دوره كطبيب اقتصادى متخصص أكبر من "تمرجى" يعطى حقنة مسكنة لمريض يرقد على فراش الموت مكتفيًا بأن يطمئن أسرته بأنه سيتعافى ويصبح كالحصان عندما يصبح جسده أقوى من الجرثومة التى تنهشه!
العبارات الفضفاضة العنترية من نوع "يلا بينا نقوى البورصة يا جدعان علشان الدولار يحترم نفسه ويرخص"! تعطى للبسطاء انطباعا وهميا بأن قيمة العملة الأجنبية يمكن أن تنخفض أمام العملة المحلية بمعزل عن تقوية الاقتصاد الوطنى، وتوحى للمواطن بأن هناك إجراءات تشبه السحر الأسود يمكنها القيام بذلك دون تنمية حقيقية مستدامة تعتمد على تنفيذ جاد لمشروعات مدروسة تحقق عوائد لا يلتهمها السماسرة والفاسدون والمحاسيب، ولها فلسفة اقتصادية أكبر من الدعاية الفجة الضخمة التى تنطلق كفقاعات الصابون بعد وقت قصير. هل يقبل رئيس مجلس إدارة بنك خاص على ضميره المهنى أن يطمئن المودعين، أصحاب رأس المال، بأن الخطة التى يضعها أمناء الاستثمار تمضى على ما يرام، بينما الواقع يؤكد عكس ذلك؟ وهل يقبل منه المودعون أن يكتفى بطمأنتهم بعبارة منطقية بدهية، لا تدعمها أية سياسات اقتصادية واقعية، تخبرهم أن الأمور كلها ستسير على ما يرام عندما تصبح أرباح البنك أكثر من مصروفاته؟! بينما هم يرون بالفعل حجم الإنفاق الترفى، وحجم الخسارة بالتورط فى مشروعات مشكوك فى جدواها الاقتصادية لا يشى بأى تحسن قريب!
إذا كنت لا تقبل هذا السلوك المراوغ من رئيس مجلس إدارة بنك خاص فكيف تقبله من محافظ البنك المركزى؟
هل يصح أن يرى قائد الجيش أوجه القصور والخلل ولا يشير لها بأمانة ووضوح، وينصح قيادته السياسية، ويكتفى وقت الحرب بتوجيه عبارات لا قيمة لها تطمئن الرأى العام من نوع: من المؤكد أننا سننتصر عندما يصبح جيشنا قويا؟! الجيوش تنتصر بالاستعداد والعتاد والتدريب ولا ترتفع قدراتها القتالية بعبارة رقبتى يا ريس. كذلك ترتفع قيمة العملة عندما يتعافى الاقتصاد.
الموظفون أهل الثقة الذين يفتقرون إلى الرؤية لا يختارون مناصبهم بأنفسهم. كل مرحلة تختار أبطالها الذين يليقون بها. عندما تعرف أن بلدا صغيرا يفتقر إلى الموارد مثل ماليزيا، مساحته تماثل محافظة الوادى الجديد، لا يمتلك ثروات طبيعية من المواد الخام، ولا قناة عملاقة، ولا موقعا فريدا، ولا مدينة واحدة كالأقصر تحتوى على ما يقرب من ثلث آثار العالم، ينتهج سياسة اقتصادية منضبطة تحقق معدلات تنمية هائلة ترفع عوائدها قيمة عملته المحلية، وترتفع بمتوسط دخل الفرد لديه من مئة دولار سنويا فى عام 1981 إلى ستة عشر ألف دولار سنويا من واقع تقارير البنك الدولى لعام 2014 التى تقول: إن إجمالى الناتج المحلى الماليزى تجاوز 338 مليار دولار أمريكى فى بلد عدد سكانه 29 مليونا، هبطت فيه معدلات البطالة إلى الصفر تقريبا بعد التوسع الهائل فى الصناعات المتوسطة والصغيرة!
فلا تتعجب إذن عندما تعرف أن محافظ البنك المركزى الماليزى السيدة الدكتورة زيتى أختر عزيز ظلت فى منصبها منذ عام 2000، أي قبل ثلاثة أعوام من انتهاء ولاية مهاتير محمد، وحتى هذه اللحظة، تقود أوركسترا السياسات الاقتصادية وتضبط قرارات البنك المركزى التى تلائم مناخ التنمية التى وضعها ذلك الزعيم الوطنى الأسطورة، الذى لم يطالب شعبه الغلبان بأن يجوع لكى يدفع فاتورة انحيازاته التى لا تخدم سوى أباطرة الفساد، ولم يطلب منهم ربط الأحزمة على البطون، بينما يضع الملعقة الذهبية فى فم أجهزته الأمنية والقانونية التى تحميه وتحمل ريشة على رأسها.
لا أملك إلا أن أقول "إوعدنا يا رب".