الأرجح أنك فى مصر لم تعد تسمع عن كلمة "المهنية"، إلا فى الإعلام، وفى الحديث عن الإعلام، وفى ظل مناخ استقطابى حاد، تطغى عليه السياسة، وتحاول الأطراف إثبات نجاحها إن أمكن، حتى ولو بلىِّ الحقائق، فإن لم يمكن، فيكفى أن تثبت أنها أقل فشلاً من آخرين، يبقى طرح "المهنية" فى الصحافة ذاتها مخطوفًا لمصالح سياسية، حتى باتت القصة الصحفية التى تؤيد وجهة النظر السائدة هى "المهنية"، وما سواها التشكيك، لكن تلك قصة أخرى.
لكنك وأنت تعبر عن ارتياحك بانتهاء أزمة الطائرة المصرية التى جرى اختطافها وتحويل مسارها إلى قبرص على خير كامل، دون خسائر لا فى أرواح أو ممتلكات أو حتى مزيد من الخسائر فى سمعة تأمين المطارات المصرية، ربما تجد نقاطا بيضاء كثيرة فى ثوب سوَّد مساحته الواسعة غياب الكفاءة وسيادة الاستسهال.
قليل من "المهنية" إذن يمكن أن يكفى للخروج بأقل الخسائر من أكبر الأزمات، وهو ما جرى منذ الإعلان عن اختطاف الطائرة، سواء بحسن تصرف قائد الطائرة "عمر الجمل"، وهو حسن تصرف متمسك بقواعد ومعايير محددة فى التصدى للأزمات من هذا النوع، تضع فى اعتبارها فى المقام الأول سلامة الركاب كهدف وغاية يستحق بلوغها أى تنازل، وأى احتواء ممكن للخاطف، وبالتالى التعامل مع أى تهديد لأرواح الركاب وسلامتهم بجدية بالغة مهما كان التصور عن حجم هذا التهديد، فليس من اختصاص قائد الطائرة أن يقيس قدرة الخاطف على الإيذاء، وهل معه حزام ناسف فعلاً أم هيكل خاوٍ، وإنما واجبه أن يأخذ أى احتمال إيذاء بجدية بالغة، لأن أرواح الناس لا تقبل المقامرات والمغامرات.
بمثل هذه الروح المهنية تعاملت شركة "مصر للطيران" مع الأزمة بشفافية، وبيانات سريعة، مهما كان محتواها وهل كانت تلبى الرغبة فى المعرفة كاملة أم لا؟ إلا أن سرعتها وتدفقها كانا علامة على سلوك إدارة مهنية راغبة فى أن تضع الرأى العام فى الصورة، كذلك المؤتمر الصحفى السريع لوزير الطيران. قارن ذلك بأزمة الطائرة الروسية التى تم إنكارها منذ البداية حتى إن مسؤولاً حكوميًّا قال إنها وصلت الأجواء التركية فى طريقها إلى موسكو، بينما كانت مهشمة فى صحراء سيناء، ودعك من بيانات بعض المحسوبين على الدولة التى خلطت بين أسماء الركاب وقدمت اسمًا مغايرًا للمتهم، والخبراء الاستراتيجيين الذين غمروا الشاشات مداخلات وتصريحات تلوك الحديث من هنا وهناك، وأولئك السياسيين والكتاب الذين حاولوا جر المشهد للتخديم على قضايا سياسية داخلية، والحديث عن المؤامرات والاستهدافات، إلا أن الأداء الرسمى من أول قائد الطائرة "المهنى" والشركة ووزارة الطيران، يستحق البناء عليه، واتخاذه نموذجًا مبدئيًّا للتصرف مع أية أزمات أخرى.
لديك أيضًا سرعة واضحة من أجهزة الأمن فى إخراج فيديو لخضوع المتهم للتفتيش المعتاد فى مطار "برج العرب" قبل ركوبه الطائرة، بما ينفى سريعًا وبشكل ناجز، احتمالية وجود ثغرات أمنية فى تأمين المطارات المصرية، ويحصر المسألة فى راكب "مغامر" لم تتضح دوافعه حتى الآن، استخدم مواد غير محظورة أمنيًّا فى صناعة هيكل يشبه الحزام الناسف، منحه القدرة على الإيحاء، بما خلق التهديد الذى تعامل معه قائد الطائرة وباقى الطاقم.
فى مطار "لارناكا" كان هناك أداء مهنى آخر، فى الإدارة القبرصية للأزمة، عبر محققين وضباط متخصصين فى التفاوض، استطاعوا دون أى تدخل غشيم إقناع الخاطف بتسليم نفسه وإطلاق باقى الرهائن.
القدرة على احتواء الأزمة فى نطاقها عبر قواعد ومعايير محددة، وهدف واضح بحماية الأرواح، ومتخصصين كل يمارس دوره فقط وليس أدوار الآخرين، وقصر مدة احتجاز الرهائن، سمح بإنهائها دون خسائر، وقبل أن يتوسع خبراء الشاشات فى برامجهم الليلية فى تخريج سيناريوهات وتحميل الواقعة، أبعادًا سياسية محلية أو إقليمية، وربطها بفوبيا المؤامرات، وقبل أيضًا أن يتوسع المختلفون فى رسم سيناريوهات التقصير.
"المهنية" اختراع جيد ومجرب، يكفى أن تتذكر أن أعظم إنجاز عسكرى مصرى حديث متمثل فى حرب أكتوبر، كان عملاً مهنيًّا فى الأساس، استطاع أن يمتص صدمة الهزيمة، وأن يولى مسؤولية القوات المسلحة
لقادة مهنيين غير منخرطين فى السياسة، وأن يتولى كل جهاز فى حدود تخصصه ممارسة دوره فقط، دون تغول على الآخرين.
وهذه القيمة الغائبة، كان يمكن حال توافرها فى الأعوام الأخيرة الماضية أن توفر علينا كثيرًا من الجدل والمعارك والخيبات، والتورط فى مزيد من الوهم، وأن تعزز الأمل فى نفوس المصريين كما عززته بهجة فرحتهم بعبور أزمة الطائرة بنجاح.