نعم في مصر فقراء، ولكن أن يصبح الفقر «تمثيلية» و«حجة» و«لعبة» سخيفة فهذا مرفوض.
الأرقام تقول إن 40% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، والواقع يقول إن الـ60% الباقين يدعون صعوبة المعيشة وضيق ذات اليد، ولكن الواقع غير ذلك تماما، إذ تفضحنا جميعا فاتورة الدعم الباهظة التي أفلست الدولة، وكروشنا الممتلئة التي تميزنا عن غيرنا من شعوب العالم، وفاتورة الاستيراد الفاخرة ونمط حياتنا الاستهلاكي الذي لا يليق بفقراء، ولا حتى بأغنياء!
.. ادخل أي مركز تجاري من المولات الضخمة الفارهة المليئة بالمحال والمطاعم وأماكن الترفيه، ستجد المكان مزدحما بآلاف البشر، كما لو كنا في موسم الحج، والمحال التي تبيع منتجات الماركات العالمية الشهيرة مكتظة بالزبائن، وحركة البيع والشراء لا تتوقف، والمطاعم والكافيهات أكثر ازدحاما، لدرجة أنك قد لا تجد مكانا لك ولأفراد أسرتك في أي منها بسهولة، بل عليك أن تسجل اسمك في قائمة الانتظار حتى يخلو مكان!
النقود تتحرك من يد إلى يد، والدفع بـ»الفيزا» لا يتوقف، وماكينات الصراف الآلي «بالطابور»، ومع ذلك الكل يشكو، أصحاب المحال يشكون من قلة حركة البيع، والزبائن يصرخون من غلاء المعيشة، ولكن أيا منهم لن يتوقف عن «فسحة» المول، فقد أصبحت ثقافة وأسلوب حياة لدى المصريين، كأهل الخليج تماما!
اذهب إلى أي ناد رياضي، ستجد الأمر نفسه، ومن الصعب أن تجد مكانا للجلوس في الحديقة أو على حمام السباحة، والكل جاء ليأكل ويشرب، والقليل جاء لممارسة الرياضة، فكل علاقتنا بالرياضة أهلي وزمالك ولعبة فيفا!
اذهب إلى أي مطعم للوجبات الخفيفة، لا يشترط أن يكون مطعما للكباب والكفتة أو الـ«سي فود»، ستجد زحاما لا تخطئه العين، الطابور طويل أمام الكاشير، والطلبات لا تنتهي، وبواقي الطعام في صندوق القمامة، عادي!
اذهب إلى أي محل كشري أو فول وطعمية، ستجد الزحام هو اللغة السائدة، لدرجة أنك قد لا تستطيع الحديث مع مرافقيك من كثرة البشر الذين يجلسون متلاصقين على الكراسي الضيقة لتناول كل ما لذ وطاب!
وحتى عربات الفول والطعمية «الشعبية» المنتشرة على النواصي، الطلبات «بالضرب»، والزبائن يتبارون في طلب كميات قياسية من الخبز والفول تكفي لإطعام أسر كاملة، و«ربنا يخليلنا الدعم»!
المقاهي بمفهومها الشعبي، من الصعب أن تجد في أي منها كرسيا للجلوس، طلبات الزبائن لا تتوقف بين الشيشة والحجر والحجر الزيادة والحاجة الساقعة والشاي والقهوة والقرفة والجنزبيل والذي منه، والمشاوير التي يقطعها الجرسون وصبي الشيشة بين الزبائن ولا «سبرينتات» محمد صلاح مع روما!
اصعد أعلى كوبري 6 أكتوبر، أو الدائري، وشاهد بيوت الفقراء والمعدمين وأسطح العشوائيات، حيث الفقر وبؤس الحال، واحسب عدد أطباق «الدش» في المتوسط على سطح كل بناية، بما في ذلك المباني الآيلة للسقوط، أو التي تتوسط أكوام القمامة وبحور المجاري ولا تصلح لسكن الآدميين!
اذهب إلى أي سوق الخضار، سوق السمك، شارع عبد العزيز، وكالة البلح، محال وسط البلد، لن تستطيع السير على قدميك من كثرة الزبائن، والأمر نفسه ينطبق على السينمات، والحدائق، ومدن الملاهي.
اطلب أحد «الصنايعية» في منزلك لإصلاح أي شيء في الكهرباء أو السباكة أو غير ذلك، للوهلة الأولى سترثي لحال «الباشمهندس»، وستجده يشكو شظف العيش، ولكن بعد تجاذب أطراف الحديث معه لدقائق، ستكتشف أن الرجل صاحب أطيان وعمارات، وربما تصاب بدوار لو حاولت أن تحسب دخله الشهري إذا ما قام بـ»طلعة» أو «طلعتين» فقط يوميا!
المحمول والإنترنت في يد الجميع والحمد لله، فقراء وأغنياء، مهما تكن التكلفة، المحمول في يد سائق التاكسي والميكروباص والتوك توك والبائع المتجول وحارس العمارة و«البنت الشغالة»، وأيضا في يد عامل النظافة الذي يتسول من أصحاب السيارات «عادي»، بل وفي يد المتسول نفسه، وبعضهم يحمل هاتفا «تاتش سكرين»، وإذا سألت أو اندهشت، سيقال لك إنه من أساسيات الحياة!
بالله عليكم، هل من المواصفات العالمية للفقر استخدام الدش والمحمول واستهلاك الغذاء بنهم، ومعه شوية دخان ولب وتسالي وشماريخ بكميات خيالية؟
هل نحن شعب فقير حقا؟ أم أن جزءا كبيرا منا «يحترف» الفقر، ويدعيه، ويتاجر به، ليزداد شبعا .. وكسلا .. ودلالا.. ودعما، ولا يضيع في الرجلين إلا الفقراء الحقيقيون؟!