ظل «سبيل أم الخديو» ردحاً من الزمن جنة الفقراء من أهل مصر، يفرون إليه من ظلم بعض الولاة والجباة، ثم أصبح ملجأ للمماليك ذاتهم الذين هربوا إليه من جحيم الترك بعد أن غزوا مصر. وعندما غزا الفرنسيون البر وبدأ المصريون يخططون للثورة ضدهم كان «السبيل» مركز اجتماعات الثوار ومنه تحرك الأهالى إلى الجامع الأزهر. ومع احتلال الإنجليز لمصر تحول «السبيل» إلى معقل للثورة ضدهم. كثيراً ما أخفى الأهالى فيه الشباب الوطنى الثائر والهارب من سلطة الاحتلال. وبعد أن صمد زماناً، دون أن يصيبه أذى، جاءته الإصابة الأولى فى العدوان الثلاثى، لقربه من مخازن السلاح بالقلعة فوجهت إليه ضربات أدت إلى سقوط دور كامل منه. وما زالت آثارها ماثلة حتى الآن على الأثر حتى اليوم، لتجعل منه شاهداً على الزمن، وأحداث الحياة التى تقلب فيها الزمن، وانتقلت بالناس من حال لحال.
أما شارع «سبيل أم الخديو» فقد كان شارعاً غريب التضاريس يبدأ متسعاً حيث توجد بعض العمائر العالية ويأخذ فى الضيق، كلما دلفت إلى الداخل، حيث تتحول هذه العمائر العالية إلى عشش وأكواخ يسكنها العشوائيون كما تسميهم الحكومة. وتصطف الدكاكين التى تبيع بضائع متنوعة على جانبى السبيل. تسير الدكاكين فى خط مستقيم فى أماكن، وتنعطف إلى الداخل فى أماكن، ثم إلى الخارج فى أخرى. يستقيم الخط أحياناً، ويتعرج فى أحيان أخرى، بينما الشارع يسير حتى يصطدم بفضاء الشارع الكبير الذى يطل عليه من مدخله فقط. وأهم ما يميز هذا الشارع هو المساجد الضخمة التى بناها المماليك فى كل بقعة منه. كانوا يتنافسون فى معمارية مساجدهم، مراكز حكمهم وإدارتهم لشئون البلاد والعباد. والآن تحولت هذه المساجد إلى مزارات ينساب إليها السائحون الراغبون فى رؤية ما ترك المسلمون من آثار. أما أهل المكان فقد كانوا يأمّون هذه المساجد للصلاة.
داخل السبيل كانت هناك «زاوية صلاة» متسعة بعض الشىء، لا تحظى بزخرف ولا زينة مساجد المماليك. بناها أحد ملاك العقارات أسفل عمارته تهرباً من الضرائب. وكانت مهجورة ومغلقة باستمرار فى الماضى، حيث كان يفضل أهل السبيل الصلاة فى مساجد المماليك. أما اليوم فقد صار لها شأن آخر، حيث الحركة لا تهدأ بداخلها. يتجمع بها مجموعة من الشباب من أبناء السبيل يقيمون الصلاة فيها. وبين كل صلاة وأخرى يتجمع أطفال السبيل إليهم للتعلم وحفظ القرآن، وتوزع الهدايا على المجيدين منهم فى الحفظ والاسترجاع. فرح أهل السبيل بهؤلاء الشباب الذين هداهم الله، فأخذوا يصلون ويحفظون القرآن ويعلمون غيرهم من صبية السبيل. كانوا يعتقدون أن المساجد لا يطرقها إلا كبار السن أما الآن فها هم الشباب يملأون ساحة الزاوية ويعلمون الكبار ما لم يكونوا يعلمون، لكنهم كانوا يعجبون، وتساءلوا غير مرة: لماذا يترك الشباب مساجد المماليك مترامية الأطراف ويفضلون هذه الزاوية الصغيرة؟!..