إن جيت للحق .. «وشنا» من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر فى الأرض. يعترينا الخجل. نادمون نحن على ما اعتقدنا فى مشايخ الجامع الأزهر ورموزه. لحوم أصابعنا بانت من العض ندما على أننا لم نعرف قبل زيارة الشيخ الطيب لألمانيا، أن بالأزهر كل هذا التسامح، وأن لدى الأزهريين كل هذه الاعتبارات للحريات الدينية، والرغبة فى التجديد، والترحيب بالمجددين، والقدرة والرغبة على العبور من أزمات «التضييق»، إلى آفاق أرحب فى الدين والعقيدة الإسلامية، بالمعقول من المنقول.
«آسفين يا سيدنا الشيخ»، فنحن لم نعرف، إلا والشيخ الطيب فى ألمانيا، أن لدى مشايخ الأزهر أيضا، مبادئ تنطلق من أمر قرآنى، بأن من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. وأنهم يسعون كأى مواطن عصرى عادى لتجديد الخطاب الدينى، ويحاولون جهد إيمانهم، كأى مواطن عصرى عادى مرة أخرى، لنشر التسامح فى الفكر، وقبول الآخر، واستيعاب المغاير.
فى ألمانيا، قدم الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب صورة مختلفة لرجال الأزهر الشريف، عما عهدناه منهم فى مصر. بين أراضى الجيرمان والقاهرة العربية الإسلامية، آلاف من الكيلومترات فى المسافة، وستة اختلافات فى طبيعة رجال الدين الذين رسمهم الشيخ الطيب بالكلمات الحلوة أمام البرلمان هناك.
ليس تجرؤا على مقام الإمام الأكبر لو قلنا إن رجل الدين المسلم، الذى قدمه الشيخ الطيب، فى برلين، ابتعد ملايين الفراسخ مما تعدون عن المشايخ المداومين على الحضور يوميا قبل التاسعة، لمكاتبهم فى «المشيخة» بسيدنا الحسين بالدراسة، يحتسون الشاى بالحليب مع البقسماط وقرص العجوة .. قبل أن يبدءوا العمل بعد صلاة الظهر، فيتتبعون المجددين والمفكرين، ويقلبون بين كتّاب الأعمدة بملاقيط مقدسة، ويفرزون مؤلفى الكتب بـ«جوانتيات» معقمة بروائح المسك والعود، ثم يبحثون كيف يحيلون بعضهم على القضاء بتهم ازدراء الدين، وكيف يمنعون آخرين عن الشاشات، حفاظا على الإسلام القيم، كما يراه المشايخ، لا كما أراده الله.
(1)
من خطبته أمام البوندستاج الألمانى فقط، فهمنا من ابن الأقصر الدكتور الطيب، أن الأزهريين، ليسوا «دوجما» ولا متعنتين. كشف لنا فضيلته، أنهم ليسوا متصلبين فى الرأى، ولا صحة لما يتردد من أن لديهم باترونات للإسلام، كما يريدونه هم ويرونه، فمن يخالف الباترون كافر، ومن يجافيه خارج عن الملة.
قلبت زيارة ألمانيا، وكلام الإمام الأكبر هناك الأحداث والشواهد، والتاريخ والجغرافيا، رأسا على عقب. رزعنا كلام فضيلة الدكتور الطيب فى الأرض، فنزلنا «زرع بصل» رءوسنا تحت، وأقدامنا لأعلى طربا وخجلا من رجال الدين.
فالمشايخ «طبعة ألمانيا»، يدعون هم أيضا إلى فتح الأذرع لدعوات إعادة النظر فيما لحق بالإسلام السمح من مغلوطات أفكار، تقتل على الرأى، وتحبس على برامج التليفزيون، وتتبع المفكرين، والمجددين وتدخلهم السجون، وتسلط على رقابهم سيوفا بعضها من فولاذ، وبعضها أحاديث نبوية مشكوك فى صحتها.
المشايخ «طبعة ألمانيا» أيضا ضد ضعيف السنن، ومع مزيد من أوكسجين الأفكار التى يجب ضخها فى أجساد الفكر الدينى، حتى لا ينقلب إلى تراث، ولا تتحول المقدسات إلى قصص كارتون كما فى أفلام الأطفال، وكى لا يحول التراث الفكر الدينى لجثة جيفة، فيما كان العفن أشد ما ينخر فى عباب الدين، وفى أخلاقه.. وسماحته، وسماحة أهله.. ورعاياه.
غلب حمارنا يا مولانا الإمام الأكبر. احترنا واحتارت أدلتنا، ودأبت خرائطنا فى المياه الألمانية، وأحاديث السماحة والوسطية هناك. اسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب.
مع من كان شيخ الأزهر فى ألمانيا؟
هل صحيح أنه كان مع الوسطية، واستمرار الحوار، ومع العقل والمنطق فى الفهم الدينى، وعدم التشدد فى الأحكام الشرعية، والاستنتاجات فى المسائل النقلية كما قال؟ أم أن الصحيح أنه دائما مع صقور الأزهر من مشايخ، وصلوا بالإسلام إلى الحد الذى أصبح فيه الدين على مقاسهم، فما يرونه هو الدين، وما يرفضونه ليس إسلاما. وما يحلونه فى الأرض، يقر فى السماء، ما يربطونه على الأرض يربط فى السماء.. فيدخل إسلام بحيرى السجن، لمجرد الاجتهاد، ويحال الدكتور خالد منتصر إلى القضاء على ما اقترفت يداه من مقالات ترفض فكرة الشفاء ببول الإبل، وتنفى المعجزات عن الطب النبوى، وتصف الحجامة بالجهل، وكاسات الهواء بالنصب والاحتيال؟
أمام البرلمان الألمانى، قال الإمام الأكبر إنه مع التجديد فى الدين، لأن الإسلام عالمى، صالح للمكان والزمان، مهما تغيرا. قال أيضا إن الحريات وصلت بالأزهر إلى أن قنوات الإلحاد المتزايدة فى مصر، دليل على فكر المشايخ الوسطى، وربيع قلوبهم الدينى.
لو كان كذلك، فلماذا غض الدكتور الطيب الطرف عن المحبوسين من المجددين؟! ولماذا ترك آخرين يسنون قواعد فى أن «الرأى والفكر» خرق للعقيدة، وأن الاجتهاد أول طرق خرق الدين؟
لو كان سمحا، فلماذا ترك الشيخ الطيب «طبعة ألمانيا» مناهج الكليات والمعاهد الأزهرية فى القاهرة، تقترف المعاصى، وتُقر موبقات باسم الدين، وباسم سنن مغلوطة، لأولين من شخصيات المسلمين؟
(2)
فى ألمانيا، نفى الدكتور الطيب حض الإسلام على الجهاد بالسلاح. قال: إن الجهاد فى مفهومه، هو جهاد النفس، وأن علماء الأزهر يؤسسون من بداية دراستهم بالكليات الشرعية على السماحة، ليواجهوا الأفكار السلبية التى تحّرف الدين، وتستغله فى الدعوة إلى الفتنة العمياء التى تسحل الدماء وتدمر الأوطان.
قال أيضا: إنه ليس صحيحا ما يقال عن أن الإسلام دين قتال ودين سيف. وأن الإسلام لا يقتل المرتد، ولا يدعو لهذا، وأن لفظة السيف، لم تأت فى القرآن الكريم، إنما الوسطية والسماحة، والموعظة الحسنة هى التى نص عليها الكتاب العزيز.
دبلوماسى كان فى ألمانيا شيخ الأزهر، بينما لم نعتد نحن من المشايخ فى القاهرة هدوءا ورحابة، وطلاوة كلام، وحلاوة حديث هكذا.
ليس افتراء على مقام الإمام الأكبر لو قلنا إنه ليس كل ما قاله الدكتور الطيب صحيحًا. جل من لا يسهو يا فضيلة الشيخ. لو كان الإسلام دين سماحة، فليس كل الأزهريين كذلك.
لو كانت العقيدة على هذا النحو، فليس كل مشايخنا بلين النفوس، وأريحية الدين، وسهولة مقاصد الله فى التكليف، فلماذا يصمت الإمام الأكبر على قسوة المشايخ فى القاهرة، بينما يتكلم عن حلمهم وتساهلهم فى ألمانيا؟
لماذا لم يتدخل الإمام الأكبر فاصلا بيننا وبين من يقهرنا بالرداء الأزهرى، فيحبس من يتكلم، وينكل بمن يدافع عمن يتكلم؟
متابعة دقيقة لنص خطاب الإمام الأكبر فى ألمانيا، ستكتشف أن فكر التجديد، ومفهومه لم يصل مكتب الشيخ الطيب فى القاهرة بعد. فالتجديد أساسه اليقين بأن هناك الكثير مما يجب أن يتغير داخل المشيخة، وفى أروقة الجامعات، وبين دارسى الشريعة والعلوم الإسلامية فى الجامعات الأزهرية والمعاهد. التجديد أساسه الإيمان بأن السجن لا يجب أن يكون عقاب مجتهد، والعين الحمراء من الدكتور عباس شومان لا يمكن أن تكون عقابًا لباحث على فتحه كتب التراث، وإشارته إلى أن هناك ما يجب أن نحرقه بالنار.. أو أن نلقيه طواعية فى سلة مهملات التراث.
كان طريفا أن يطالب الدكتور الطيب الألمان، بإنصاف الأزهر الوسطى السمح، وطلابه وأساتذته، بينما الألمان أنفسهم يعرفون كثيرا عما يحدثه المشايخ بأصحاب الآراء، ومحاولى التجديد، وكارهى التراث فى مصر.
تقول النكتة: إنه بينما كان الإمام الأكبر يتحدث عن سماحة الأزهريين، كان أعضاء البوندستاج يتداولون كتابا عليه صورة الراحل الدكتور فرج فودة الذى قتله أزهريون تنفيذا لشرع الله!
النائب العام المستشار هشام بركات قتله أزهريون أيضا. نجيب محفوظ حاول أزهرى نحره، ولما سألوه، قال : كافر.. أعادوا السؤال: هل قرأت له؟ قال: معاذ الله.
الراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد انقلب عليه أزهريون، والذى طرده أزهريون، والذى قاضاه بالحسبة، وفرق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس أزهريون أيضا!
طريفا كان قول الدكتور الطيب فى ألمانيا أن الجهاد جهاد النفس، مع أن الجهاد فى مناهج الأزهر كان سيفا، ورمحا، وفى كتب الأزهر يدرسون أحاديث للنبى يقول بعضها «رزقى تحت سن رمحى» و«بعثت بالسيف.. والخير فى السيف»!
من أين يأتى الأزهريون إذن بالتشدد الذى نفاه الإمام الطيب، ورفضه فى ألمانيا، ووصفها بأنها دعوات مغرضة، ضد الأزهر وضد الإسلام؟
الإجابة: التشدد فى مناهج الأزهر، ودعوات القتل باسم الدين، فى كتب الأزهر، والقنابل الموقوتة، التى تخرج مشايخ على خلاف ما وصفهم الإمام الأكبر فى ألمانيا، موجودة فى مناهج ابتدائى أزهرى، وإعدادى أزهرى، لتكتمل البلوى فى الكليات والدراسات العليا، وتصل إلى التفرقة الشرعية بين المسلم والقبطى «فى كتاب الإقناع لحل ألفاظ أبى الشجاع» مثلا، إلى درجة إجازة أكل المسلم جثة القبطى فى المجاعة، بينما تحرم أكل جثة المسلم حتى ولو فى حالة الاضطرار لشرف الإسلام؟
(3)
فى برنامج تليفزيونى أمريكى شهير قبل أيام، سأل المذيع الرئيس أوباما: مع من نحن يا سيادة الرئيس؟ لم نعد نعرف مع من نحن. ففى العراق، نقف إلى جانب إيران، ضد العراق والسعودية وباقى الدول العربية.. وفى اليمن، نحارب ضد إيران، مع السعودية وباقى الدول العربية؟ بينما فى واشنطن، نحن نتفاوض مع إيران، بالرغم من ضيق السعودية وباقى الدول العربية؟
قال المذيع للرئيس الأمريكى: لو أعطيتك بندقية الآن.. على من تطلق النار؟
ضحك أوباما رغم احمرار وجهه، وضحك الحضور. فالقصة بليغة، والسؤال عظيم الدلالة.
قياسا ممكن أن نسأل: مع من كان الدكتور الطيب فى ألمانيا؟ هل كان مع حقيقة المفهوم الإسلامى للجهاد، فى أنه يبدأ بالنفس، وينتهى بالدفاع عن الأوطان ورد الاعتداء؟ أم أنه مع مناهج الأزهر، وعقيدة المشايخ فى أن العالم داران، دار حرب والأخرى دار سلام، وأن دار الحرب، هى تلك التى لم يدخلها الإسلام، ولا تقام شريعته فيها.. وأن المسلم مطالب، بنشر الإسلام فى دار الحرب، إما رضاء أو جهادا بالسيف؟!
هل الدكتور الطيب، مع الرأى الوسطى، بأنه لا عقاب للمجتهد، ولا المجدد، ولا حتى المرتد عن الدين، إذا رأى الارتداد كما قال؟ أم أنه مع مناهج الأزهر، التى تبيح قتل المرتد عن الدين، ولو بدا ارتداده بمجرد القول، إعمالا لنص الحديث النبوى الشريف: «من بدل دينه فاقتلوه»، وتوافقا مع حديث آخر يدرسه طلاب الكليات الشرعية بالأزهر: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث..» منهم المرتد عن الدين المفارق للجماعة؟!
واضح أنه ضرورى البدء من القاهرة، لتحليل خطاب الإمام الأكبر فى ألمانيا. معيار الحكم على كلام الشيخ الطيب فى برلين، لا يبدأ من نص خطابه الذى وزعته الهيئة العامة للاستعلامات على الكتاب، والسفراء المعتمدين، والقناصل فى القاهرة والعواصم الأوروبية. معيار الحكم على كلام فضيلته يبدأ من القاهرة، ومن مناهج الأزهر فى القاهرة، وفكر مشايخ الأزهر ممن لم يصلوا إلى كرسى المشيخة بعد.
فى مناهج الأزهر، عقيدة الأزهريين.. لذلك، بعضهم داعش، وبعضهم قتلة، وبعضهم كذابون. واذكر عندك فى الكتاب الطالب الأزهرى الذى ادعى فوزه الشهر قبل الماضى، فى مسابقة عالمية للقرآن الكريم، ولما عاد، واحتفلوا به ورفعوه على الأعناق، اكتشفوا أنه كذب على الله، وكذب على كتاب الله.. فلا فاز ولا يحزنون.
لا يصدقوننا لو قلنا إن الأزهر أصابه التغيير، تماما كما ضرب التغيير نفسه مجتمعاتنا، لذلك لم يعد المشايخ كما كانوا.. ولم تعد المؤسسة كما كانت.
هل كان من الممكن تصور دارس لكتاب الله معمم، من طلبة الأزهر، يصل به الحال، فيكذب باسم كتاب الله، ويحتال باسم الله، بينما شيخ الأزهر فى ألمانيا يتكلم عن رشد الأزهريين، وسماحة المشايخ؟
كارثة!. •