سهير جودة
الواقعية السياسية لا تصنع أبطالاً
يبقى المجد فى كتب التاريخ ومقالات الصحافة محجوزاً للشخصيات أصحاب المواقف وأصحاب الشعارات الوطنية، القادرين على اعتلاء وإعلاء موجات الإحساس الشعبى، بصرف النظر عن قدرة أغلب هذه الشخصيات على الفعل ذاته أو على تغيير الواقع بواقع آخر، وحتى بصرف النظر عن قدراتهم على معالجة الواقع، بحيث يكون أفضل حالاً إذا تولت سلطة أو تبوأت منصباً.
والشخصيات أصحاب الشعارات يقيناً هى شخصيات وطنية بسخاء ولكنها عملياً أقرب إلى الخطباء أو الزعماء الشعبيين ممن يمثلون عنوان الشعار الشعبى، أو فى أفضل الأحوال هم الأقرب إلى أصحاب النظريات، ولكن الاكتواء بنار السياسة ومد اليد فى أوكار ثعابين الواقع، هذا أمر آخر، وفى هذا الإطار ظلت فى الحياة السياسية المصرية بعض الشخصيات التى لم يكن لها قبول شعبى من حيث خطابها أو تماهيها مع موجات الحس الجماهيرى، ومع ذلك لها جهد عظيم وكفاءة رائعة فى إدارة شئون الحكم واقعياً، ويتصدر هذا النوع من الشخصيات فى الحياة السياسية المصرية إسماعيل باشا صدقى، الذى صنف بأنه عدو الشعب والحاكم الرجيم، وكان دائماً يأتى فى وزارات تعرف
بالانقلابات الدستورية، وكان مجيئه رئيساً للوزراء ينذر بالصرامة والحديد والنار، ولأنه رجل دولة فقد تولى أكثر من حقيبة وزارية فى الفترة من 1920 حتى 1946 فجاء وزيراً للزراعة وللأوقاف وللمالية.
الوجه الآخر لإسماعيل صدقى ظلم فيه تاريخياً، فهو كان رجل دولة وسياسياً كبيراً فى السياسة الواقعية البراجماتية، لم ينتم إلى الفئة الحنجورية، وفى الاقتصاد لا يشق له غبار.
تبنى الشعارات السياسية ما أسهله ولكن إدارة الدولة مهمة صعبة، ولذلك فهو بحق، كما وصفته د. صفاء شاكر فى كتابها المهم عنه، وهو الكتاب الوحيد من نوعه، أنه كان يمثل الواقعية السياسية فى مواجهة الحركة الوطنية، وهذا تعبير دقيق وليس تعبيراً إنشائياً، لأنها وصفته بالواقعية السياسية، ولم تذهب فى وصفه إلى الأوصاف السهلة المعتادة والسطحية، مثل الديكتاتورية السياسية فى مواجهة الحركة الوطنية أو السياسية الطبقية فى مواجهة الفئات الشعبية، هذا الكتاب هو المرجع المحترم الذى يمكن أن نفهم منه ليس فقط شخصية إسماعيل صدقى، ولكن ظاهره التصنيف العاطفى للشخصية السياسية، حسب ما تقوله وليس ما تفعله، وأهمها ما فعله فى الاقتصاد المصرى وقت أزمة الكساد العالمى، فقد أخرج مصر من أزمات اقتصادية طاحنة، وهو أول مؤسس لاتحاد الصناعات وأول من انتبه إلى خطورة أن مصر بلد زراعى فقط، وبالتالى فهو أول من درس حالة الصناعات فى مصر ووجدها بدائية صغيرة وغير قادرة على التطوير والنمو، فأنشأ المجلس الاقتصادى وعمل مخصصات مالية وأودعها فى بنك مصر وديعة للصناعات الصغيرة، وعندما كان وزيراً للأوقاف أنشأ قسم الزراعة والرى ليدير الزراعات ويبيع المحاصيل، وفى نظام الرى والصرف قدم برنامجاً لأعمال الرى الكبرى وتوسيع نطاق الرى مع مراعاة الزيادة السكانية والعمران، وطالب بإتمام مشروع خزان جبل الأولياء وكهرباء أسوان لتنزح الماء وتساعد فى رى 500 ألف فدان، وعمل مع الإدارة المالية للأوقاف إدارة فنية، وهو من اخترع فكرة مفتش الأوقاف أو الزراعة وقام بعمل استراحات فى المحافظات توفيراً للنفقات، وقرب الموظفين من أماكن العمل ليعطى النتيجة الأفضل، كرامات إسماعيل صدقى فى الاقتصاد والزراعة والأوقاف لا تعد، فى العمق السياسى تتجلى شخصيته التى رفضت دخول مصر حرب 48 وكان وقتها عضواً فى مجلس الشيوخ، بينما كان النقراشى رئيساً للوزراء وانعقدت جلسة سرية لمناقشة قرار دخول الجيش المصرى حرب فلسطين، ووافق مجلس النواب، وكانت هى أيضاً رغبة الملك فاروق لأطماع تتعلق بتوجهه الشخصى وأحلامه بالخلافة والزعامة العربية، وكان صدقى هو الوحيد الذى جاهر برأيه فى رفض دخول الجيش هذه المعركة، وطرح بأداء نيابى محترم 14 سؤالاً لرئيس الوزراء، أهمها صحة ما قيل عن أن أمريكا وإنجلترا حذرتا مصر من الدخول فى حرب فلسطين، كما سأل عن مدى استعداد مصر حربياً ومالياً فى مواجهة حرب قد تتسع رقعتها ويطول مداها، وسؤالاً آخر عن مدى صحة أن الجيش المصرى تنقصه الذخيرة وأن الموجود لا يكفى إلا أياماً قليلة، وأن سلاح الدبابات يكاد يكون معدوماً وسلاح الطيران فى حكم العدم، وكان يرى أن مصر من الأفضل أن توجه إمكانياتها للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وأن عليها كأكبر دولة عربية أن تسعى للتفاهم بين الخصمين، ولكن كان هو الصوت المعارض الوحيد فضاعت دعوته كما قال البعض وسط قعقعات السلاح وصخب الجماهير، وعندما ننظر إلى هذه المواقف بصرف النظر عن اتفاقنا أو رفضنا لها فإن ما حدث تاريخياً من نتائج حرب فلسطين وما ترتب عليه معروف للجميع، فقد كان حقيقياً أن السلاح المصرى غير كاف أو غير كفؤ بل وفاسد، وكان حقيقياً أن الجيش الصهيونى هو الأكثر تنظيماً وكفاءة، وأن إسرائيل أصبحت على مساحات أكبر ولكن كما فى كل مرحلة تحدث لحظة اشتعال الرؤوس بالشحن فتبدو الآراء والمواقف مثل تلك التى يتبناها صدقى نوعاً من التخاذل أو الاستسلام أو الإهانة أو الانتهازية أو الخيانة، بينما الحقيقة ليست كذلك. لصدقى جملة مهمة تتطابق مع كل العصور (كثير من السياسيين فى مصر يتهيبون عرض آرائهم بصراحة دون مواراة أو مداراة ولو اعتنق كل سياسى فضيلة حرية الرأى وجهر بما يعتقد دون مبالاة لكان عندنا الآن رأى ناضج تفيد البلاد منه فى كل أمورها، سياسية كانت أو عسكرية أو اجتماعية).
هذه كلمات قالها قبل أكثر من 65 عاماً ولكن ما تمناه لم يحدث أبداً وحتى الآن.