الوطن
د. محمود خليل
السبيل (3)
اعتاد أهل السبيل النظر إلى بعض الباعة الجائلين، ممن يطرقون بابهم باستمرار، على أنهم جزء منهم، وإن لم يناموا وسطهم. «عم حنفى» بائع الفول، و«أبوسيد» بائع الذرة «المشوية»، كان الأخير يأتى إلى السبيل فى موسم الذرة فقط، ويختفى باقى أيام العام. وما كان أكبر متعة الصغار عند قدومه، ليشتروا منه عيدان الذرة المشوية ويفوزوا بـ«الكنافة» التى تخرج من العيدان، قبل إعدادها للشى. يأكلون الذرة ويلعبون بالكنافة يستمتعون بكل شىء!.

أما «عم حنفى» بائع الفول فقد كان من أكثر البائعين الجائلين التصاقاً بأهل السبيل، طويل القامة، شائب الشعر، يرتدى جلباباً عليه معطف أصفر. كانت هذه الملابس أشبه بالزى الرسمى الذى لا يتخلى عنه. وخلفه تسير زوجته، ترتدى جلباباً أسود وطرحة سوداء، لا تتخلى عنهما أيضاً. دائماً ما كانت تسير خلف «عم حنفى». هل كان ذلك بسبب بطء الخطوة أم بسبب الاعتياد؟. لا أحد يدرى!. المهم أن أهل السبيل أدركوا فيما بعد أنها تجرى كالنعامة، عندما حاول أحد الأطفال الهروب بطبق الفول الذى غرفته له دون أن يدفع الثمن، يومها أخذت تجرى خلفه، وهو يجرى منها إلى أن أدركته، والناس يكادون يموتون من الضحك على شكلها، الذى يشبه «قدرة الفول» وهى تتدحرج. وقد كانت بالفعل شديدة الشبه بـ«قدرة الفول»، نحيلة من أعلى وشديدة البدانة من أسفل. ولم يكن الناس يعرفون لها اسماً، ولم يشغلوا بالهم بسؤال «عم حنفى». كل ما كانوا يعرفونه عنها أنها «القدرة» وعم حنفى «جوز القدرة». لم يجرؤ أحد أن يناديها أو ينادى عم حنفى بهذه الألقاب، لكن كل أهل السبيل كانوا يلوكونها فى أفواههم سراً، ويضحكون فيما بينهم.

وما أكثر الضحكات التى كانت تعلو من أهل السبيل. كانوا يضحكون على أى شىء وكل شىء. من يبصرهم فى تلك الحال يشعر أنهم ملائكة يداعب بعضهم بعضاً. ولكن فى لحظة ينقلب هذا الضحك إلى صراخ وعراك، يمكن أن تسيل فيه الدماء، على أتفه الأسباب، لتتحول الجنة الفيحاء إلى جهنم الحمراء، وينقلب صوت الضحك إلى أنات وعويل. بمرور الوقت تحول «عم حنفى» إلى ناقوس السبيل. فصوته كان أشبه بجرس المنبه الذى يستيقظ عليه أهل الشارع كل صباح. يأتى بعد صلاة الفجر بساعة، جاراً وراءه عربة الفول وعليها القدرة، وزوجته من خلفه، وينادى بأعلى صوته «يا رب يا كريم.. كريم يا رب» وعلى هذا الصوت اعتاد مختار على الاستيقاظ كل صباح.

كان مختار على فهمى يعيش فى بيت يتوسط السبيل من مدخله إلى منتهاه، يزامله فى الحياة داخل البيت نفسه أخواه «طارق» و«فهمى»، وكان أولهما طالباً بكلية طب «قصر العينى»، وثانيهما خريج كلية التجارة، أما «مختار» فقد تخرج فى كلية الآداب، قسم تاريخ، ويعمل مدرس تاريخ بمدرسة «صلاح الدين الإعدادية». الثلاثة أبناء المرحوم على فهمى الموظف بوزارة الزراعة الذى نزح مع زوجته من المنصورة للعمل بالقاهرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف