يرتبط مفهوم الدولة المدنية ارتباطًا وثيقًا فى علوم السياسة ونظم الحكم بالأسئلة التى أفرزها البناء المعرفى
والدستورى والقانونى والاجتماعى فى نظام الدولة الحديثة، وهى تُعنى بتوصيف العلاقات بين السلطة والمجتمع، من خلال طرح مجموعة من المفاهيم، كالحرية والمواطنة، والمطالبة بتفعيل إجراءات كثيرة، كالدستور والفصل بين السلطات والديمقراطية والتعددية السياسية؛ بقصد تحقيق العدالة والعيش الكريم.
ولا نظن أحدًا يختلف معنا فى أن هذه المفاهيم والإجراءات رسخها الإسلام تنظيرًا منذ نزول الوحى وتطبيقًا ابتداء من دولة المدينة المنورة وانتهاء بالدولة الحديثة، وقد تناولنا كثيرًا من هذه المفاهيم بتفصيل عبر هذه السلسلة من المقالات. ولا نستطيع إنكار أن نظم الدولة مرت بمراحل متعددة، سيرا نحو التدرج فى التطوُّر عبر التاريخ حتى وصلت إلى ما هى عليه فى العصر الحديث، وهذا لا يعنى أن نغض الطرف عما يشهد به الواقع الثابت الذى يؤكد أن نواة هذا التمدن والتحضر الملاحظ فى نظام الدولة ومهامها قد أسس له النبى صلى الله عليه وسلم فى العشر سنوات التى قضاها فى المدينة المنورة بعد هجرته الشريفة تأسيسًا عبقريا حكيمًا، وهو مساهمة حقيقية كاملة فى جوانبها فى ترشيد الإنسانية فى سيرها نحو المدنية والحضارة.
وأما عن مظاهر مدنية الدولة فنجد نظام الدولة فى السياسة الشرعيَّة حاز قصب السبق فى هذا الشأن، حيث نجد نظرة الشرع الشريف إلى الناس جميعًا إنما هى باعتبار مبدأ وحدة الأصل البشري، مما يؤكد أن اختلاف البشرية فى ألوانها وأجناسها ولغاتها وعقائدها وديانتها ما هو إلا آية من الآيات الباهرة الدالة على عظيم قدرة الخالق، وهو فى الوقت ذاته يشير إلى أن هذه التعددية باعثٌ ودافعٌ للتعارف والتواصل لا للتصارع والتقاطع.
وينبنى على ذلك حق الحرية الكاملة فى الاعتقاد والتصرفات، ومن ثَمَّ يعترف الشرع بمبدأ المواطنة، الذى يُعَدُّ فى نصوصه ومقاصده رابطةً ضروريةً قائمة على الالتزام والمسئولية، لا على تبادل المشاعر المعنوية، وهو تحقيق للاستقرار والتآلف بين أهل البلد الواحد مهما تعددت العقائد والانتماءات العرقية، سعيا نحو التعايش والنهوض بالدولة وتقويتها وتوحيد صف شعبها وكلمتهم فى مواجهة أى خطر يهدد هُوِيّة الدولة وسيادتها واستقرارها.
ولقد أعلى الشرع الشريف من قيمة الوطن والوطنية، فالوطن رمز عظيم، والانتماء إليه مطلوب فطرةً وشرعًا، ولا ينحصر المقصود بالوطن على مجرد موطن الميلاد فحسب، بل يشمل مدلولا أوسع وأكبر، وهو الدولة التى ينتمى إليها الفرد، ومن ثَمَّ بات انتماء الفرد لدولة معينة فيما يعرف بـ »الجنسية« بمثابة العقد الاجتماعى والرباط القانونى بين الفرد والدولة، الذى تتحدد به الواجبات التى تقع على عاتق الفرد تجاه غيره من المواطنين والدولة، وتتضح الحقوق المدنية والسياسية التى يتمتع بها الفرد، وتنبثق منها الصلات الروحية التى تربط بين الفرد ومجتمعه ووطنه، دون التفات إلى تمييز بين الأفراد أو الطبقات، تطبيقًا لمبدأ المساواة، وهذا مبنى على مساواة الجميع فى التمتّع بحقوق المواطنة، ارتكازًا للقيم الإسلامية التى تحمى الحريات الدينية ومصالح جميع الأفراد المدنية والسياسية دون غبنٍ أو جور.
والحكم يوضع فى فرد واحد، تحاشيًا للفوضى، ويعاونه فى تنفيذ مهامه وزراء ومؤسسات وهيئات على سبيل التفويض، ولا يُفرض ولا يمنع نظام معين لصورة الحكم إذا تحقق فيه توافق الناس وتحقيق مصالحهم العليا.
وأن سلطة الحكم مستمدة من إرادة الشعب وثقته، فهو الذى يضع نظام الحكم ويختار المسئولين ويراقب أعمالهم ويحاسبهم، يقول العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية سابقًا فى (حقيقة الإسلام وأصول الحكم ص 30): «إن المسلمين هم أول أمة قالت بأن الأمة هى مصدر السلطات كلها قبل أن يقول ذلك غيرها من الأمم». مع مراعاة ضرورة وجود القانون الأعلى الذى يحدد شكل الدولة والقواعد الأساسية المنظمة لشئونها والكاشفة عن طبيعتها وهويتها وطبيعة نظام الحكم ونمط الحكومة فيها، وتنظيم العلاقات بين سلطاتها المتنوعة، وبيان الحقوق والواجبات الأساسية لكل مواطن بها، مع وضع الضمانات العامة تجاه السلطات الثلاث المكونة لنظام الدولة: التشريعية والقضائية والتنفيذية، مع الفصل التام بين هذه السُلطات.
ولا يخفى أن ما مرَّ ذكره يؤكد حرص المسلمين منذ تأسيس دولة المدينة المنورة وانتهاء بالدولة الحديثة على تحقيق مدنية الدولة وتعزيز مقوماتها، سعيًا نحو الأخذ بأسباب العمران والحضارة من جوانب متنوعة ومتكاملة.