بوابة الشروق
بسمة عبد العزيز
جحا وألف جحا
خرج صوت أنثوى محمل بالنشاط والحيوية من الراديو ليتحف المستمعين بالقول الأثير: «صبح على مصر بجنيه». كان من الممكن أن يمر القول دون ضغائن لولا أن تبعته كلمات أغنية وطنية جادة، كتبها حسين السيد ووضع لحنها محمد عبدالوهاب، ففور انتهاء عملية التسول التى اتسمت للحق برشاقة الأداء، انطلقت المجموعة تنشد: «صوت بلادى بينادى بينادى.. صوت حضارة من يومها جبارة.. ياما صنعت أبطال ورجال..»، ولم يكن على المستمع إلا الربط ما بين البلد الذى ينادى والمرأة التى تريد الجنيه.

الصورة البلاغية التى نقلها إعلان الراديو جمعت بين موقفين متناقضين؛ موقف ضعف وهوان واحتياج من ناحية، وموقف قوة وبأس وكبرياء من ناحية أخرى. أفولٌ واضمحلال حاضران يقابلهما عزٌ ومجدٌ وليا واندثرا، ولا يخفى على كل ذى عقل لايزال واعيا متزنا رغم الظروف، أن النتيجة النهائية هى رسالةٌ تفتقر إلى الحد الأدنى من الكياسة، وخلاصتها أن الحضارة الجبارة تتهاوى وأن «التصبيحة» لازمة لإنقاذها.

أدركت أن صوت المرأة مصحوبا بالأغنية الوطنية هو إعلانٌ يتكرر بين فقرة وأخرى، إذ استضاف محاوران (مذيع ومذيعة) ضيفة، عرفاها للمستمعين بكونها خبيرة اقتصادية مرموقة. كان على الضيفة أن تعلق على أزمة انخفاض سعر العملة المصرية أمام الدولار، وما إن أفسحا لها المجال، حتى انبرت تؤكد فى حماسة وحمية أن الدولار يجب ألا يشغل اهتمام الناس، يرتفع كما يشاء وينخفض كما يشاء، لا شأن للمصريين من الطبقات الدنيا والوسطى به، إذ لا يستخدم إلا لاستيراد احتياجات الأغنياء المرفهين. كررت الضيفة كلامها وزادت واستفاضت مطمئنة «الفقراء» دون أن يراجعها أحدٌ، وأشارت إلى أن انخفاض سعر الجنية أمام الدولار هو لعبةٌ من ألاعيب الخارج التى تعرفها جيدا، وحين كفت عن الكلام صدح الصوت الأنثوى مرة جديدة: «صبح على مصر بجنيه».

***

لا أدرى ما الذى دفع بجحا على وجه التحديد إلى ذاكرتى فى الدقائق التى استمعت خلالها إلى الراديو. ربما هى شهرته الواسعة بالحمق الذى دفع الناس إلى السخرية منه والتفكه بنوادره والضحك عليها لقرون متعاقبة. ربما هو صيته الذائع بارتكاب أفعال وتصرفات لا يعقلها الناس ولا يتوقعونها. نوادر جحا كثيرة جمعت فى قصص وحكايات مسلية تناقلتها أجيالٌ وأجيالٌ. يقال إنه ولد فى القرن الأول الهجرى، ولا اسم أكيد له، ولا موطن واحد. من حماقاته الشهيرة أن أضاع حماره فى أحد الأيام فراح يبحث عنه حامدا الله، فسألوه علام الحمد والحمار قد ضاع، فقال: أحمده لأنى لم أكن راكبا على الحمار ولو كنت راكبا عليه لضعت معه.

تطرق الحديث إلى ما أسماه المذيعان «شائعات» حول اختفاء المواطنين، وحول توجيه الاتهامات إلى وزارة الداخلية، وفيما انبريا بالدفاع عنها وعن جميع الأجهزة الأمنية، واستعانا بتصريحات المسئولين الرافضة النافية لشبهة الإخفاء القسرى، وفيما أكدا أن هؤلاء المواطنين غادروا البلاد وهجروها، فقد أعلنا أيضا أن وزارة الداخلية مدت المعنيين بالأمر ومن بينهم على سبيل المثال المجلس القومى لحقوق الإنسان، بمعلومات عن بعض الأشخاص المختفين تفيد وجودهم لديها، أنهى المذيعان مهمتهما بنجاح ثم هل الصوت: «صبح على مصر بجنيه».

***

الحمقٌ داءٌ عصيٌ لا يرجى منه شفاءٌ، وقديما قال المتنبى «لكل داء دواءٌ يستطب به * * * إلا الحماقة أعيت من يداويها». تفسر المعاجم العربية الحماقة بأنها قلة العقل وفساده، ويبدو أن لدينا من هذا وذاك الكثير. مواقفٌ لا حصر لها وأحداثٌ جسامٌ تقع أمامنا، نتابعها كل ساعة وكل يوم، ندقق فى التفاصيل وفى ردود الأفعال التى تأتى من إعلاميين ومسئولين كبار وأصحاب سلطة ونفوذ، فلا نكاد نصدق ما نسمع ونرى، لفرط الخفة وشيوع المتناقضات.

بقدر ما كان جحا يبدو غبيا ساذجا، فإنه اتسم بالفطنة والذكاء فى بعض المواقف، وتروى بعض المصادر أن ما نسب إليه من حماقات إنما وضعه من كانوا يعادونه، وعمدوا إلى تكريسه رمزا للحماقة والتغفيل، ومما تناوله الناس دليلا على فطنته وسرعة بديهته، أن كان راكبا حماره حينما مر بجمع من الناس، وأراد واحد منهم أن يمازحه فقال: يا جحا لقد عرفت حمارك ولم أعرفك، فرد عليه جحا: هذا طبيعى لأن الحمير تعرف بعضها.

لا يبدو أن الحماقة التى ترتع فى أجوائنا مقترنة بشىء من الفطنة، ولا هى مصحوبة ببعض فلتات من الذكاء. هى حماقةٌ خالصةٌ مبرأة من كل منطق ومن كل عقل.

يقال إن لكل بلد جحا يخصها ولكل عصر جحا يحمل نوادره وحماقاته. أظن الأمر صحيحا فلم نعد بحاجة إلى جحا القديم، إذ سيذكر عصرنا هذا فى كتب التاريخ بألف جحا وجحا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف