بوابة الشروق
عبد اللة السناوى
أشباح الدولة الفاشلة
لا يصح إنكار أن هناك تدهورا فادحا فى الصورة السياسية للأوضاع الحالية فى مصر.

فى التدهور نيل من الثقة العامة فى المستقبل وتآكل فى جذر الشرعية واحتمالات لا يمكن استبعادها بغير تدارك أسبابها.

الكلام عن أن «العالم لا يهمنا» فيه استهتار بالمنزلقات الحرجة وفيه استخفاف بكل مسئولية عامة.

والنزوع إلى تنظيم حملات علاقات عامة على الصعيد الدولى محكوم عليها بالإخفاق مسبقا.

ما لم تكن هناك إصلاحات حقيقية تستجيب لأنين مواطنيها وتؤسس لتوافقات صلبة فإن كل شىء سوف يندفع إلى نهاياته دون قدرة على تجنب أية كوارث محتملة تأخذ من البلد أمله فى مستقبله.

الأساس هنا فى مصر.

الداخل قبل الخارج والسياسات قبل الدعايات.

مواجهة الحقائق أيا كانت قسوتها أفضل ألف مرة من دفن الرءوس فى الرمال.

من حق مصر أن تسائل نفسها قبل أن يسائلها الآخرون.

بصورة متكررة يلجأ المسئولون الغربيون الكبار فى أية اجتماعات مع نظرائهم المصريين إلى شىء من المساءلة فى سجل حقوق الإنسان والحريات العامة.

فى بعض المساءلة التزام بالقواعد الحديثة فى العلاقات الدولية التى لم تعد تستسيغ الانتهاكات المفرطة باسم السيادة الوطنية.

وفى بعضها الآخر ضغط لتطويع السياسات وفق استراتيجياتها، والدول الكبرى تحكمها مصالحها قبل أى اعتبار آخر.

باعتبارات المصالح قد تتقبل أية دولة كبرى أعذارا وحججا ووعودا بإصلاح لا يتم الالتزام بها، أو أن تغض الطرف عن السجل كله إلى حين.

غير أن ضغوط مراكز التفكير والتأثير على صانعى القرار لا يمكن التهوين منها أو التقليل من شأنها.

هذه اعتبارات رأى عام تعنى «الحكومات المنتخبة» وقد تتحكم لاحقا فى تغيير المسارات عند أول منعطف.

أمام ما يشبه الإجماع فى «الميديا» الغربية والمنظمات الحقوقية الدولية ومراكز الأبحاث الكبرى فإن التفسير التآمرى ينكر الطبيعة العالمية لقيم حقوق الإنسان والحريات العامة ويتجاهل فى الوقت نفسه الانتهاكات التى أساءت إلى سمعة البلد بقسوة.

على خلفية قضية مقتل الباحث الإيطالى الشاب «جوليو ريجينى» تصاعدت حدة الانتقادات إلى حدود غير مسبوقة.

باتساع مجال الانتقاد ارتفعت درجة المطالبات باتخاذ إجراءات عقابية، وهذه مسألة تتعدى نظام الحكم إلى المجتمع كله.

«النيويورك تايمز» طالبت الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» بإعادة النظر جذريا فى العلاقات مع النظام المصرى الحالى.

التلويح بالعقوبات إشارة حمراء أيا كانت نوازع الصحيفة الأمريكية الشهيرة التى دأبت على انتقاد الأوضاع المصرية بعد (٣٠) يونيو.

النزعة ذاتها تتردد فى أروقة الاتحاد الأوروبى لكن عن خفوت نسبى.

وفق دبلوماسى مصرى مخضرم يطل على الحسابات الدولية فإنه من المستبعد أن يلجأ «أوباما» إلى أية إجراءات راديكالية قبل نهاية ولايته الرئاسية غير أن مراكز الأبحاث والتفكير لن تتوانى عن إعداد بدائل لـ«نظام الحكم الحالى» تضعها أمام الإدارة الأمريكية المقبلة التى قد تأخذ بها.

كما أن الحكومات الأوروبية قد تتحسب بتفكير مماثل.

ما تملكه مصر أن تبادر وتصحح وتمسك مقاديرها بيديها، تحاور نفسها بجدية وتفتح الملفات الصعبة وتحسم كل تفلت وفق قواعد دولة القانون.

أخطر وضع ممكن أن يجد البلد نفسه فى حالة انكشاف والشبهات تكاد تتحول إلى حقائق.

بدا الأداء فى قضية «ريجينى» كارثيا بصورة لا تصدق فى كل التفاصيل والإجراءات والتصريحات كأنها دليل على التورط.

إذا كان الاحتمال صحيحا، على ما يرجح الإيطاليون، فإن تقديم الجناة إلى العدالة يعيد الثقة فى الأمن المصرى وقدرته على التصحيح الذاتى.

فى كل الأحوال من مصلحة مصر وصورتها فى عالمها وفرص تعافى اقتصادها التعاون بشفافية لكشف «الحقيقة المزعجة»، فإيطاليا غير مستعدة لأية «حقيقة مريحة» بتعبير رئيس وزرائها «ماتيو رينزى».

صدمة «ريجينى» لا تلخص عمق الأزمة المصرية لكنها إحدى تجلياتها.

فى تكرار الحبس بقضايا نشر وآخرهم الكاتبة «فاطمة ناعوت» رغم النص الدستورى القاطع بعدم جوازه يطرح أسئلة لا مفر منها حول طبيعة الدولة.

لا ينصف الدين الحنيف حبس صاحب أى اجتهاد، مهما كان شططه، فالفكر لا يرد عليه بغير فكر.

وفى قوائم المحتجزين خلف أسوار السجون بلا محاكمة أسئلة أخرى تنال من العدالة فى مصر.

وفى قسوة الانتهاكات ما يدفع إلى ارتفاع منسوب الغضب بالصدور إلى مستوى الكراهيات.

بعض القصص مخجلة ومأساوية معا دون حساب يردع ويصحح.

ورغم الاعتراف الرئاسى بأزمة الدولة مع شبابها وتعهدها بقوائم متعاقبة من الإفراجات تتأخر الإجراءات بغير سبب مقنع كأن هناك من يتعمد التعطيل والانتقام من «يناير» وشبابها وأهدافها واسمها نفسه.

فى التنكيل بالمستقبل جنوح إلى الفشل.

بقدر ما تصحح أوضاع حقوق الإنسان فى الداخل تخفت درجة حدة الانتقادات فى الخارج.

كما يرتفع بالوقت نفسه منسوب التماسك الداخلى.

فلا تماسك يتأسس على قهر ولا توافق يبنى على تشهير.

بيقين فإن أى حوار مرتقب بين الرئاسة والمجلس القومى لحقوق الإنسان خطوة على الطريق الصحيح شرط أن تتبعه إجراءات وإفراجات تسد ثغرات الثقة وتفسح المجال لخطوات تالية.

فى تحسين سجل حقوق الإنسان تحصين للبلد من أية تصدعات محتملة.

بين ثغراته الواسعة تمر الضغوطات، بعضها باسم القيم الإنسانية، وهذه مشروعة، وبعضها تحاول ترتيب المسرح الداخلى بموازين قوة جديدة، وهذا تلاعب بالمصائر المصرية.

إذا أردنا تحصينا كاملا للمستقبل كله فلابد من الاستجابة لكل أنين.

هناك نوعان من الأنين، أحدهما اجتماعى والآخر سياسى.

الأول، يعانى ارتفاعا فى الأسعار فوق طاقته على التحمل ويفتقد الحد الأدنى من العدل الاجتماعى وسياسات الحكومة غير مقنعة بقدرتها على تجاوز الأزمة الاقتصادية.

والثانى، يستبعد بلا منطق من أية معادلة سياسية فالمجال العام يغلق أمامه وسجلات السجون متخمة بأسمائه.

الأنين الاجتماعى قد يفضى إلى اضطرابات واسعة، وهذا هو الاحتمال الارجح إذا لم تصحح السياسات المتبعة.

والأنين السياسى يحرم البلد من فكرة التماسك الضرورى ويغيب فرص التوافقات الوطنية لمواجهة أية تحديات وجودية.

إذا ما اتسعت الاضطرابات وضاقت الطاقة عن أى احتواء سياسى وتنامت الضغوطات الخارجية فمن غير المستبعد السيناريو الأكثر كارثية: «التحول إلى دولة فاشلة» يعجز اقتصادها عن تلبية أدنى مهامه ويفلت أمنها عن أية سيطرة وتعمها الاضطرابات دون قدرة على ضبطها.
مصر يقول عنها أهلها «إنها محروسة» لكن من الحكمة التحسب لكل سيناريو واتخاذ ما هو ضرورى لتجنب أية أشباح لدولة فاشلة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف