الوطن
نائل السودة
على مبروك (2)
وهكذا كانت الأيديولوجيا -حسب على مبروك- تمارس التوجيه الصريح والخفى على الواقع، مما أدى إلى محدودية المشاريع العربية فى إنتاج معرفة حقة ومنتجة بالواقع، ومع وقوع الهزيمة العربية المنكرة فى أواخر الستينات فإن المشاريع العربية اضطرت أن تمحور اشتغالها حول النقد على النحو الذى استحال معه هذا النقد إلى نقد أيديولوجى بالأساس، ويشار هنا إلى عمل مهدى عامل وطيب تيزينى وعبدالله العروى ومحمود إسماعيل، وغيرهم.

ثم راح الباب ينفتح تدريجياً حول (النقد المعرفى) الذى بدأ يهيمن على الساحة الفكرية العربية منذ مطلع الثمانينات تقريباً. ولا ينكر على مبروك مبدئياً ما أحدثه هذا النقد الإبستمولوجى من تغيير عميق فى طبيعة النظرة إلى الأزمة العربية، ولكن ما طال معظم تجلياته من اختراقات الأيديولوجيا قد انتهى إلى إرباكها وتشوهها شبه الكامل وبدا كما لو أنها تناطح نفسها وتعيد إنتاج ما عرفه الخطاب العربى قبلاً من تناحر الأيديولوجيات على سطحه.

وضرب على مبروك مثالاً على ذلك يغنينا عن أية أمثلة أخرى، لأن لهذه المعركة طبيعة نموذجية تعبر تماماً عن المشاريع التى يقصدها على لبيان أفكاره. تلك هى المعركة الفكرية الشهيرة التى عرفت بمعركة نقد الفكر العربى التى دارت رحاها بين اثنين من كبار المفكرين العرب وهما محمد عابر الجابرى صاحب كتاب «نقد الفكر العربى» وناقده جورج طرابيشى (الذى رحل قبل مبروك بأيام قليلة) وقد انتصر لكل منهما جيوش من المفكرين والأنصار العرب.

تندرج نصوص المفكرين تحت إطار النقد المعرفى، إذ يوظفان جملة المفاهيم التى يعرفها هذا النوع من النقد فى عملهما، ولكن النتيجة التى يصل لها على مبروك بقراءته للمعركة أن الصراع هو صراع أيديولوجيا الأصالة والمعاصرة. فـ«الجابرى» يثبت أصالة ومركزية المغرب فى مواجهة تهميش المشرق له على مدى قرون، اعتماداً على أن المغرب يتميز بعقل برهانى منطقى بينما يتميز الشرق العربى بعقل صوفى بيانى. ويرد عليه «طرابيشى» ويثبت أن الأصالة والمركزية ليست لهؤلاء الأوروبيين الذين راح «الجابرى» يؤسس على بنيانهم أصالة مغربه ومركزيته. وبينما يرى «الجابرى» أن أصل هذا العقل المغربى امتداد لعقلانية العقل الإغريقى وبرهانه الذى هو أصل العقلانية الأوروبية الحديثة، ولذلك فإن قيادة الحداثة العربية لا بد أن تنعقد للمغرب وليس للمشرق الذى كان سبباً فيما يعانيه العالم العربى منذ عدة قرون، فإن «طرابيشى» ينقده قائلاً إن الحضارة والعقل الإغريقى نفسيهما قد قاما على الحضارات القديمة ومنها بالذات المركز الفينيقى الذى لعب دوراً حاسماً فى بناء العقل اليونانى وعلى نحو يمكن معه افتراض كونها أصلاً لعقلانية أوروبا الحديثة بالتالى.

وهكذا يبين على مبروك أن الأمر قد انتهى بالنقد المعرفى إلى نفس مصائر النقد الأيديولوجى، والتى لم تكن إلا الانشغال بإشكالية السلطة والقيادة، وأوهام الأصالة والصدارة.

صار النقد المعرفى فى عالم العرب إلى محض حروب قبائل، ولم يتجاوز الأمر حدود استبدال أصالة بأصالة ومركز بمركز، وما هذا إلا هيمنة منطق الإحلال والتبديل الذى يفرضه الاختزال الأيديولوجى للواقع العربى.

لقد بات الانتماء إلى حيز جغرافى الذى يشغله الواحد من هذين، مجبراً على أن ينحشر ضمن حدود النظام المعرفى، بما ينطق به ذلك من تكريس تطابق بين المعرفى والجغرافى، مما يكشف أن هذه قراءة جغرافية بدل أن يقال إنها فقط معرفية.

وجهت إرادة الأصالة عند كليهما بناءيهما للتاريخ موضوع الانشغال لكل منهما، ورغم أنهما يبدوان على نحو مغاير، إلا أن كل واحدة من الإرادتين قد اشتغلت على توافق تام مع جوهر الإرادة والميول والرغبات التى تتعلق بها والتى تسبق التحليل.

كان الطرفان يتفقان على صعيد نظام البنية ويختلفان على صعيد المضمون السطحى فقط.

سلاماً عليك يا «على» وعلى كل عقل فقدته البلاد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف