الوطن
د. محمود خليل
السبيل (5)
مختار على فهمى، «ثور الساقية» كما يحب أن يسمى نفسه، مدرس تاريخ بمدرسة «صلاح الدين الإعدادية» صباحاً، وجرسون بمسمط المعلم «عضمة» مساء، يذهب إلى المدرسة ليعود فى الثانية ظهراً. يتغدى ثم ينام ساعتين، يستيقظ بعدها للذهاب إلى عمله الثانى فى المسمط من الخامسة حتى العاشرة مساء. ويعود إلى المنزل ويهرب إلى سريره. المكان الوحيد فى الحياة الذى يشعر فيه براحة النفس قبل راحة البدن. جاوز عمره الثلاثين الآن بثلاث سنوات. كان يحلم بالحب وبالزواج. ظل يراوده الحلم حتى الثلاثين من عمره. استطاع أن يدخر مبلغاً من المال يمكن أن يساعده فى الحصول على شقة -حتى لو كانت متواضعة- يتزوج فيها، ولكنه الآن أصبح لا يريد. تبدد حلمه وتحطم داخله. كانت أكثر متع «مختار» الذاتية أن يسرح مع نفسه وهو مستلقٍ على سريره. زهد فى الأشياء. علمه التاريخ أن يعيش الحاضر فى الماضى. أن يتفلسف. فالفلسفة أعظم النواتج التى يمكن أن يتعلمها الإنسان من التاريخ.

- تلميذ بمدرسة صلاح الدين (متحدثاً إلى زميله): ها هو الأستاذ «مُخ» قادم!.

- زميله: سيسمعك!.

- التلميذ الأول (ضاحكاً): حتى لو سمعنى!. إنه لا يفعل شيئاً. يشرح الدرس كأنه يقرأه من كتاب. يجيب عن الأسئلة كالمذياع!.

- التلميذ الثانى: ليتنى أملك نصف قدرته على الحفظ.

- التلميذ الأول (ضاحكاً): لو تحقق ما تمناه.. فأبشر بنصف مُخ «ضارب»!.

يدخل «مختار» إلى الفصل. يضع كتبه وأوراقه على المنضدة. يتناول إصبع «طباشير» ويكتب على السبورة «الفتنة الكبرى»، ثم يستدير إلى تلاميذه، ويقول:

- كانت الفتنة بداية النهاية للخلافة الراشدة. بدأت بقلاقل واعتراضات على قيام الخليفة عثمان بن عفان بتعيين أقاربه فى مناصب الدولة العليا مما أثار الضغائن عليه. وقاد التمرد ضده فى البداية مجموعة من كبار الصحابة، وما لبث التمرد أن انتقل إلى عموم المسلمين.

- تلميذ (متسائلاً): حتى فى هذه الأيام يا أستاذ كانت هناك محسوبية؟!

- «مختار»: كان بنو أمية مشهورين بحنكتهم الإدارية وقدرتهم الخاصة على تصريف شئون الدولة.

- تلميذ آخر: يعنى كانوا مولودين محنكين يا أستاذ؟

- زميل التلميذ المتحدث: ما معنى محنك؟

- التلميذ الآخر: يعنى كلامه حلو.. أكيد محنك من «الحنك».

- مختار (بلا اكتراث): كان «عثمان» يختار من يحافظ على المصلحة العامة للمسلمين.

يستطرد «مختار» كالآلة فى صب كلمات التاريخ من فصل إلى فصل، حتى ينتهى اليوم الدراسى، ويوقع فى دفتر الانصراف ليعود إلى بيته. وفى طريق العودة كان عجوز السبيل دائماً فى انتظاره!.

- عجوز السبيل: مختار يا ابن على فهمى. تشبه أباك كثيراً. لمحته أول مرة، كما ألمحك الآن عندما أتى إلى السبيل نازحاً من المنصورة ليعمل فى القاهرة. الدنيا كانت على قدم وساق أيامها.. بسبب حكاية «الفنية العسكرية». ثلة شباب أرادت قتل الرجل الكبير، لكنه نجا بعناية الله. ذهب أبوك وعاد فيك. ذهب على فهمى. وعاد فى المختار. وسيعود الفارس أحمد ممتطياً صهوة جواده. سيعود من أعلى. سيحط على الأرض بعد أن طار بعيداً عنها. سيحط هنا عند باب السبيل. يومها أذهب بلا عودة. بلا عودة.

- «مختار»: آه يا عم عباس. لا تنسى. لا تنسى أبداً. خطوط الوجه. ملامح المكان. تصاريف الزمان. مشكلة ألا تنسى!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف