التحرير
سامح عيد
التجنيد الإجباري
هل آن الأوان أن نناقش أمورًا تحولت لمسلمات؟

هل آن الأوان لنناقش أولوياتنا بجدية؟



من عدة أيام أعادت الـbbc فيلمًا تسجيليًّا مروعًا، بعنوان "موت في الخدمة"، مدته ثلاثة أرباع الساعة، يحكي عن 13 مجند أمن مركزي، ماتوا أثناء الخدمة في العامين الأخيرين، وأشارت التقاريرالرسمية أنها حالات انتحار أو موت طبيعي، وإن كان الفيلم بشكل مهني جاء بآراء متباينة، منها رؤية العميد خالد عكاشة، الذي دافع عن الجهاز، ووضع احتمالات الانتحار، بسبب قسوة التدريبات وصعوبتها، ولكن الفيلم في النهاية وقد أدي مشاهد تمثيلية أعلن عنها في بداية الفيلم، يحاول الإشارة بشكل كبير إلى أن التهمة تحاصر الجهاز الأمني، وأكد أكثر من مرة عدم تعاون الأجهزة الأمنية مع فريق الفيلم، وسجل مع أسر الضحايا، تسجيلات مؤلمة، وبعيدًا عن توجيهه اتهامات شبه واضحة بتورط القيادات في الأمن المركزي بتلك التهم، ولكنه في نفس الوقت، جسد بشكل عملي البؤس الذي تحياه الأسر المصرية الفقيرة، من الصعيد وحتى الشرقية، وضعف الحيلة لدى هؤلاء البسطاء، وسهولة ابتزازهم، وطبعًا الـ"bbc" مشاهدة عربيًّا بشكل كبير، وإن تم ترجمة الفيلم وهذا مؤكد، فإن فضيحتنا العالمية تكتمل فصولها.



قضية امتدت على مدار قرون من الزمن منذ بدأت الأسرة العلوية بتجنيد المصريين، وبعد أن كانت منتقاة وتحولت مع الوقت إلى تجنيد إجباري، ربما ظروف دولة عبد الناصر وحروبه في اليمن وحروبه في أفريقيا، ووحدته مع سوريا وتهديد إسرائيل ورغبته في تكوين القومية العربية، كل هذا كان يحتاج إلى جنود فكان التجنيد الإجباري وانتهت الحروب ومر علينا 43 سنة بلا حروب، وفلسفة واستراتيجيات الحرب نفسها تغيرت وأصبحت تعتمد على الكيف لا الكم، وعلى الطيران لا على المشاة وعلى الاستخبارات لا على المظلات وهكذا وبعد وقت طويل لم تلغ الدولة التجنيد الإجباري، ولكنها بدأت في فكرة التأجيل لعدة سنوات لجزء من الدفعات ثم الإعفاء بعد ذلك ولكن يظل التجنيد الإجباري موجودًا وملزمًا.

نحاول نحسب مع بعض، مصر ذات التسعين مليونًا تقريبًا، كان هناك 55 مليون لهم حق التصويت بما يعني أنهم فوق الثمانية عشر عامًا بمعنى أن المتبقي وهو 35 مليونا تقريبًا تحت 18 سنة، بما يعني تقريبا في كل دفعة 2 مليون مواطن، ربما نصفهم من النساء والنصف من الذكور، بمعنى أن الدولة عليها أن تجند في العام مليونا ولو خصمنا منهم من لديهم أعذار قانونية (وحيد أو شبهة سياسية) أو طبية ربما نصل إلى نصف مليون.

هل وجب علينا إعادة التفكير في هذا الأمر، ونأخذ جنودا محترفين بالاختيار ليكملوا في الجيش ولنطالع تلك المعلومات بشيء من التحليل.

دول بدون قوات مسلحة (19)

دول لا تتبنى الخدمة العسكرية الإلزامية (98)

دول لديها كلا الخدمتين العسكريتين الإلزامية والطوعية (9)

دول لديها خدمة عسكرية إلزامية انتقائية (14)

دول لديها خيار الخدمة المدنية غير المسلحة ولا القتالية (14)

دول الخدمة العسكرية فيها لا تزيد على 18 شهرا (10)

دول الخدمة العسكرية فيها تزيد على 18 شهرا (32)

منهم أرمينيا وأفريقيا الوسطي وتشاد وكوبا ومصر وإسرائيل وكوريا الجنوبية وليبيا والصومال وسوريا واليمن والسودان وفيتنام.

كل الدول الأوروبية وأمريكا إما ليس لديها جيوش من الأساس أو أن التجنيد ليس إلزاميًّا، ويعتمد علي المحترفين بناءً على الرغبات والإغراءات المالية فنحن من بين 42 دولة لديها تجنيد إجباري، ونحن من أعلى الدول على الإطلاق في مدد الخدمة، وهي 3 سنوات في حدودها القصوى، وكلهم دول عالم ثالث، ما عدا إسرائيل، وإسرائيل معروف وضعها جيدًا، أربعة ملايين مواطن، يعادون 320 مليونا، يحيطون بهم من كل جانب، ربما نناقش فكرة الانتقال إلى التخيير بين العمل المدني والعمل العسكري، ربما ننتقل إلى مدد أقل ولا نكون الأعلى عالميًّا، كل هذه الأمور يجب أن تفتح للنقاش العام ونرى مصلحة البلد تسير في أي اتجاه، طبعًا إذا أتت الحرب فهذا وضع خاص، فإذا احتاجت مصر لكل المصريين فهم قادرون على التدريب المكثف في مدد قصيرة وقد خضنا تلك التجربة في 48 و56.



أما القضية التي أري أنها يجب أن تنتهي تمامًا وهي فكرة التجنيد في الداخلية، ونلقي الضوء على قضية محورية، وهي قضية هامة بالنسبة للفئة الأقل تعليمًا، والذين يقضون ثلاثة أعوام في التجنيد غالبا ما تكون في الأمن المركزي، حيث يجلسون في العربات أحيانًا بالأيام، عندما تكون أحوال البلد متوترة وملتهبة ويتلقون إهانات بالغة في أحيان كثيرة، وأحيانًا ما يتعلمون المذلة والانكسار بدلًا من تعلمهم الشجاعة والرجولة والانضباط، وهم الفئة الأقل اجتماعيا، والأضعف ثقافيا، وقد كشف التقرير الذي أذاعته الـ"bbc" أمورًا كثيرة لم تكن معلومة لدى العالم الخارجي وفكرة عسكري المراسلة، الذي يطلق عليه مصطلح حركي (سيكا) أبرزه التقرير أيضًا، وهو مصطلح مهين وهو يقوم بالفعل بخدمة أحد الضباط، والمشكلة الهامة أن هذا الجهاز الذي تم تشكيله في عام 1968، بعد مظاهرات الطلبة لمواجهة المظاهرات، وقد تم أخذه من أقل الشباب ثقافة وتعليمًا، ليسهل صياغته وتنشئته على فكرة أعداء الوطن الفكرة التي جسدها أحمد زكي في فيلم البريء، وكان من السهل إقناعه بذلك، ولكن تلك الفكرة انتهت بكل تأكيد.



فبعد ثورة يناير، وتحية اللواء الفنجري لشهداء الثورة، وهؤلاء الشهداء بالطبع ماتوا بسبب الغاز أو الخرطوش أو الدهس، أو حتى التزاحم، فأصبح من الصعب إقناع العساكر بهذا الأمر، بالإضافة إلى أن الدستور أتاح حرية التظاهر السلمي، وأشاد الدستور بالثورتين، فأصبح من الصعب إقناعهم بذلك بالإضافة إلى أن إعلام التعبئة انتهى، وأصبح لهؤلاء العساكر الآن فيسبوك وواتس أب (هذه معلومات وليست تكهنات فأنا أراهم يوميا لظروف سكني)، بالإضافة إلى أن المظاهرات لم تصبح مقصورة على السياسيين، فالعمال والفلاحون عرفوا كيف يخرجون ليطالبوا باحتياجاتهم، وأحيانًا ما يخرجون لقطع الطريق، بسبب انقطاع الماء أو موت أحد أبنائهم على طريق ويريدون كوبري للمشاة، فأصبح من السهل، أن يعرف أن ولد عمه في غزل المحلة خرج مظاهرة، أو ولد خاله فعلها، وأصبح من الصعب إقناعه أن هؤلاء أعداء الوطن.

فأعتقد الآن أن الدولة في حاجة إلى جهاز احترافي، حياته هي الجهاز، ومعد إعدادًا جيدًا، ولديه درجة من الثقافة والتدريب، أفضل من هؤلاء المجندين البسطاء، أشار التقرير إلى أن كل عام يتم تجنيد من 100 ألف إلى 150 ألفا، وبما أن خدمتهم 3 أعوام، فلدينا 400 ألف مجند أمن مركزي، واكتشفت أن هذا ليس رأيي فقط، ولكن في مناقشة مع أحد مساعدي وزير الداخلية السابقين وخدمة في العمل الشرطي كبيرة وعمل مدير أمن ومدير مصلحة السجون، كان هذا رأيه أيضًا، وتحدث أنه يحاول تسويقه داخل الدولة، أعتقد أنه وجب علينا اقتحام مسائل لم تكن مطروحة وكأنها من المسلمات، وأعتقد أيضًا، أنها خطوة في طريق الكرامة الإنسانية التي ننشدها والتي خرجنا من أجلها، وستحسب تلك الخطوة لأي نظام استطاع حسمها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف