مايكل عادل
أحد عشر عامًا أمام المَكتبة
لم يعرف أحد كيف يفكّر وكيف يتكلّم، كيف يتحرّك حينما يكون هو؟، وكيف ترتسم ملامح الدهشة على وجهه؟، كيف يغضب ويحزن وينفعل حينما لا تصوّره الكاميرات؟. جميعنا لم يعرف، وجميعنا تعايش مع ذلك الأمر وكأنه جزء أصيل من روحه.
في بداية الفصل الدراسي الثاني من العام الدراسي الثاني في الجامعة، كان يسير ذلك الطالب خارجًا من المقهى المقابل للكليّة عائدًا للمدرّج مسرعًا ليلحق بالمحاضرة التالية التي أوشكت على البدء وإغلاق الباب أمام من فاتهم الموعد.
لا يعلم ذلك الشاب ما الذي جعله ينظر إلى جانبه أثناء مروره أمام المكتبة، ليرى جميع العاملين بها في حالة حزن شديد، غير منتبهين للواقفين أمام الباب ليبتاعوا منهم الورق والكتب والأقلام، بل إن حتى هؤلاء كانت أعينهم متعلّقة بشاشة التلفزيون في حزن شديد. ويلتفت الشاب إلى بقيّة المشهد ليرى أن الأمر قد تجاوز العاملين بالمكتبة وزبائنهم، ليُفاجأ بالمارّة وسايس الجراج وأصحاب الأكشاك والميكانيكي المجاور والعمّال واقفين أيضًا يشاهدون التلفزيون الذي تحرك إليه الشاب مسرعًا ليرى خبر وفاة الفنان «أحمد زكي» لينضم هو الآخر إلى تلك التماثيل الشمعيّة الواقفة بلا سبب مقنع أمام شاشة تلفزيون كُتب عليها خبر عاجل وتنقل صورة أشخاص يبكون.
لم يعرف الكثيرون عن حياته الشخصيّة أي تفاصيل أكثر من اسم زوجته الراحلة واسم ابنه الذي بدأ حياته الفنيّة مع نهاية مشوار أبيه في فيلم «حليم».
ذلك الشاب الذي استوقفه المشهد المهيب، والذي تكرر بالتأكيد في شوارع ومنازل ومقاهي مصر بأكملها، ربما لم يتحرّك من مكانه الذي سُرقت فيه محاضرته المهمة حتّى يومنا هذا، ربما فوجئ هذا الشاب بمرور 11 عامًا على هذا اليوم الذي لم ينته حتّى الآن، فوجئ بأنه مازال متوقفًا عند تلك اللحظة ولم يدخل إلى المحاضرة حتّى وهو يكتب تلك السطور الآن.
لماذا كان كل هذا الحزن وكل تلك الصدمة مقترنة بوفاة هذا الرجل؟ هذا الرجل الذي لم نعلم عن تفاصيل حياته الكثير لنتعلق به كجماهير كل هذا التعلّق، نحن الجمهور الفضولي الذي اعتاد ملاحقة النجوم وحياتهم الشخصيّة، وجدنا في هذا الرجل جزءًا من أرواحنا ورُكنًا من أركان حياتنا اليوميّة، فنحن كنّا جميعًا في مرحلة ما «أحمد سبع الليل» الذي عاش يبحث عن الفارق بين السجين والسجّان، بين البريء وعدو الوطن، بين صوت الناي وأصوات الرصاص.
جميعنا كان في مرحلة ما «زين» الذي يعيش الصراع بين الحب والتعاطف، بين الفقر والرضا، بين السخط على الواقع ومحاولة تجميله. «زين» الذي غنّى أمام الجماعات التكفيرية في مترو الأنفاق، حينما كانت السُلطة تترك لهم الشارع ليقوموا بتأديبه بالجنازير التي واجهت الموسيقى والجَمال والضحك الخارج من القلب. كلنا كنّا في مرحلة ما «يحيى» الذي اختلطت لديه الحقيقة بالوهم والواقع بالخيال، الذي تغبّرت أمامه الصورة وتناقصت الرؤية حتى انعدمت، فأصبح لا يعلم أين هو وأين كان وإلى أين يريد أن يذهب، «يحيى» الذي تاهت منه حقيقته قبل أن تتوه منه حقائق الصواب والخطأ، ذلك العبقري النقي الذي أخذته عبقريته إلى الهاوية، والذي يشبه إلى حد كبير «أحمد زكي» الذي أصبح بالكاد يتعرّف على نفسه أمام المرآة، ويستخرجها من بين الشخصيات التي ارتداها خلال مشواره الفنّي المهيب.
مضت الأعوام ولم يعد هناك «أحمد زكي» الذي احتل أرواحنا ولم نستطع الخروج من عالمه حتى يومنا هذا، مضت الأعوام ومازال ذلك الشاب واقفًا في ذهول يحمل البالطو الأبيض على ذراعه، في انتظار تشييع الجثمان حتى سُرق منه الوقت، ووجد نفسه أمام هذه الشاشة يصيغ هذه الكلمات، ويودّع من يذهبون بذات الملامح التي يستقبل بها من يأتون