ماذا جري لـ ¢الأيام¢ أتعود بنا إلي الخلف أم نقفز معها إلي الأمام.
فجأة وأنا أفكر في ذكري رحيل أحمد زكي حملتني الخواطر كالعادة إلي أول مرة التقيت به في الزقازيق وكان مازال طالبا مجهولا ويحلم بالتمثيل.
كان وظل حتي وفاته خجولا. هادئ النبرة متواضعا مرت الأيام وانقطعت أخباره حتي بدأ في الظهور علي الشاشة وأصبح نجما بمعايير وأبعاد فنية وصفات مغايرة للمألوف.
أحمد زكي من بين كل نجوم السينما المصريين أجده جديرا بنجوميته التي يستحقها وبه تشرف النجومية وكذلك صفة العبقرية التي اعتدنا أن نمنحها مجانا لمن لا يستحقها.
عبقرية احمد زكي مزيج مبهر من خامات مصرية خالصة شكلا ومضمونا وروحا مثله مثل عبدالحليم حافظ ويوسف إدريس ومحمد عودة إنهم طبعات مصرية متنوعة وفريدة في مجالات مختلفة مؤثرة جماهيريا الله يرحمهم جميعا. شخصيات محترمة وقوية انبتتها أرض مصرية لها خصوصيتها وموقعها الفريد "محافظة الشرقية".
أحمد زكي عرف اليتم والوحدة وشظف العيش وعاني من كل ما يمكن أن يعاني منه بسطاء هذا الوطن ولكنه مثل كثير من المتفردين الطموحين أعطي للفقر تعريفا آخر ليس منها القصور المادي أو ضيق ذات اليد أو السكن الضيق أو الهدمة المتواضعة.
إنه قبل أي شيء فقر الإرادة وغياب الطموح وهزيمة الروح والاستسلام لقوي التعويق الشريرة. إنه أيضا فقر الإيمان بالنفس والتسليم بأن لكل مجتهد نصيبا.
وأنا أحرك الريموت بحثا عن برنامج يشاركني هذه الخواطر التي صاحبتها ذكري رحيله فلعله يضيف جانبا في شخصيته غاب عني. توقفت أمام احدي قنوات النيل المصرية التي كانت تبث حلقة من مسلسل "الأيام" "1979" ها هو الممثل العبقري الموهوب الذي ناديته فجاء حيا بلحمه ودمه وموهبته يتقمص شخصية ملك البيان وعميد الأدب العربي وواحدا من أبناء الصعيد العباقرة الذين عبروا إلي الجانب الآخر من البحر حيث العالم المتقدم حاملا مصريته وطموحه وعلمه وبيانه وموقفه من المعرفة والثقافة والأدب العربي فتنبهر به واحدة من بنات فرنسا ويقترن بها وتعود معه إلي أرضه.. ولم تمنعه الاعاقة لأن البصيرة عنده أعمق ولم ترهبه القوي الرجعية أو تمنعه من امتلاك حقه في ممارسة حريته وخوض معارك الاستنارة ونشر المعرفة والتعليم الذي كان يعتبره كالهواء والماء لا غني عنه لأي مجتمع يسعي إلي التقدم.
راجع أداء أحمد زكي كفيفا. بليغا. معبرا في إجلال وجلال عن معني أن يكون الممثل علي قدر المسئولية الفنية. يضاهي القامة العالية التي يلعب دورها ويوصلها إلي المشاهدين ويؤثر فيهم.. وكيف في وجوده وسط فرقة فنية قوية ودراسة ومسئولة يقودها مخرج في حجم يحيي العلمي. وتتضمن ممثلين كبار يعرفون أهمية العمل والكتاب الذي اعتمد عليه العمل وكيف يتحول العمل الفني إلي قوة معنوية ضاربة تغذي الروح وتزيل ولو طبقة من اليأس الذي يتفرغ إعلاميون وصحفيون وكتاب لبثه حاليا في نفوسنا.
لقد صار السلاح النفسي وسيلة لهدم معنويات الناس والنيل من عزيمتهم واشاعة الروح الانهزامية فيهم ودفعهم إلي الانتحار مجتمعيا ولا خلاص من ذلك إلا بقوة ناعمة ايجابية ومثرية للروح.
الأيام.. مسلسل من 13 حلقة فقط شارك في شحنه معنويا وعلميا وفنيا نجوم رحلوا مثل عمار الشريعي والبطل أحمد زكي وكثيرين وبقي أن ندعو لهم بدوام العمر مثل سيد حجاب وعلي الحجار وممثلين شاركوا ضمن طاقم التمثيل.
أهاج مسلسل ¢الأيام¢ بوقعه وبأداء أحمد زكي زحاما من الخواطر. والاسئلة.. فليس كل ما ينتمي إلي دوائر الفن. سواء بالتمثيل أو التأليف أو التمويل نعتبره قوة ناعمة.. ¢فالقوة الناعمة¢ يمكن أن ترتد إلي صدورنا مثل الأسلحة الفاسدة فليس كل نجم أيا كان حجم جماهيريته نحسبه قوة تضيف إلي قدراتنا الايجابية. فالفنان ما لم يكن مسئولا وصاحب موقف يصب في مصلحة عموم الناس ويضيف إلي وعيهم ويملأهم بطاقة معنوية ايجابية. لا يشكل قوة يمكن أن تحترمها.. وأحمد زكي كان يقاوم وبوعي تيار الاسفاف والابتذال الفني. وكان حريصا وبوعي أيضا علي اشاعة البهجة حتي في أدواره الجادة.. فالعمل الصادق مبهج. والأداء التعبيري الممتاز وسيلة ايضاح تثري الوعي. أعيدوا قراءة الشخصية كما أداها احمد زكي في ¢الأيام¢ تأملوا طريقة نطق العربية. والبيان الفصيح. الاحساس العميق بكل ما يتفوه به. وكم الاحترام والجلال في تجسيده لشخصية طه حسين ثم اقرأوا الفاتحة علي روح هؤلاء الرموز.