الوطن
د. محمود خليل
فاروق أبوزيد
ثلاثون عاماً أو يزيد مضت على علاقة متينة ربطتنى بهذا الرجل، تعود بجذورها إلى مرحلة التلمذة بكلية الإعلام، وكان عائداً لتوه من إعارة بالمعهد الدبلوماسى بالمملكة العربية السعودية. وقتها كان فاروق أبوزيد يتوقد بالقوة والقدرة على التمرد على العديد من القوالب التى وضعها الآباء المؤسسون لتعليم الصحافة فى مصر. عود صلب من أعماق الصعيد كان الرجل يسير، وعلى كتفه تجربة مهنية خاض غمارها قبل التعيين فى الجامعة، وأشواق أكاديمية تسير فى اتجاه التجديد. مثله كنت متمرداً أيضاًَ، فجمع بيننا الاختلاف. هل من الممكن أن يجمع «الاختلاف» بين البشر؟. نعم ممكن، إذا كانت أطرافه تدرك قيمته فى إيقاد شعلة التفكير، ودعم فكرة الاستقلالية.

ياااااااااااه.. ثلاثون عاماً وأنا أتعلم من «فاروق أبوزيد» هذا الدرس!.. درس الاستقلالية، لم يكن الرجل من هذا الصنف من البشر الذين ينهون عن خلق ويأتون مثله، بل كان سلوكه رأيه، ومسلكه قناعاته، وظاهره كباطنه، صريحاً إلى درجة الحدة، رأيه من رأسه، مثله مثل أى ابن بلد يعرف معنى الجدعنة والشهامة والجرأة فى الحق. ربما كان الغوص فى أعماق الحياة فى الأحياء الشعبية، والذوبان فى تفاصيلها، خطاً جامعاً أيضاً فى علاقتى بأستاذى. الاستقلالية كانت الدرس الأكبر الذى تعلمته من الرجل، كان يؤكد دائماً ضرورة أن يكون أستاذ الجامعة مستقلاً، حيث يقوم بدوره فى التعليم، وفى كتاباته وما يطرحه من آراء، حيث يقوم بواجبه فى التنوير. وأشهد أن عمله كان يصدق أقواله، فارتضى لنفسه موقعاً بعيداً عن السلطة والأضواء، وتسامى على أى إغراءات فى هذا السياق، ولست أستطيع أن أصف لك عمق تأثير الدكتور فاروق أبوزيد على العديد من تلامذته فى هذا السياق، حتى من انساقوا فى الاتجاه المعاكس، لم يتمكنوا من الإفلات من احترام «استقلالية الأستاذ».

كنت أسعد كثيراً عندما أسمع منه تلك الجملة التى كان يكررها فى أكثر اللقاءات التى جمعتنا: «أقرب تلامذتى إلى قلبى»، وكان -فى المقابل- أقرب أساتذتى إلى قلبى وعقلى. كثيرون كانوا يتعجبون، كيف يأتلف أستاذ وتلميذ أدمنا الاختلاف فى بعض المواقف والآراء، دون أن يدركوا أن ذلك هو معنى الأستاذية الحقة، والتلمذة الحقة، فى كل الأحوال كنت واثقاً من رضائه عن فكرة الاختلاف معه، متمثلاً تلك المقولة الخالدة التى كان يرددها نيتشة: «كن رجلاً ولا تتبع أفكارى». عود جديد إلى درس «الاستقلالية» الذى تعلمه -أكثر ما تعلمه- جيل الثمانينات من خريجى قسم الصحافة بكلية الإعلام الذين تعلموا على يديه، وبأيدى هذا الجيل تألقت صناعة الصحافة المستقلة فى مصر.

حزنى عميق على وفاة هذا الرجل، حزن تختلط فيه مشاعر فقد الأستاذ، وإحساس آخر بفقد الأب من جديد. وقد أبى الدكتور فاروق أبوزيد إلا أن يعيش بالاستقلالية ويموت بها. وهو الآن يمارس حرية الصمت فى عالم أفضل.. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف