شاهدت فيلم «نوارة» فى العرض المصرى الخاص الأول بمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، أسعدنى أمران:
الأول: الفيلم، رغم الظروف العامة فى مصر وتراجع اهتمامنا بالسينما وغياب الدولة المصرية عن الإنتاج السينمائى، لدينا مفاجآت قادرة على أن تفرح كل من يحب السينما وكل من يدرك أهميتها فى معركتنا ضد التطرف والإرهاب.
الأمر الثانى: الحضور الضخم من أهالى الأقصر لمشاهدة الفيلم. إن من يتردد على دار السينما، ومن يذهب إلى المسارح ومن يشاهد لوحات الفن التشكيلى، ومن يحرص على قراءة الآداب والفنون وتجلياتهما لا يمكن أن يتطرف. وأن يعطى عقله للمتطرفين والإرهابيين.. يجب أن نتعامل مع الفنون والآداب – علاوة على المتعة الفنية والأدبية الخالصة – باعتبارها خطوط دفاع أولى ضد معركتنا فى مواجهة الإرهابيين. شهادتى مجروحة فى هالة خليل، مخرجة الفيلم وكاتبة السيناريو والحوار، والتى تعيدنا مرة أخرى للمُخرج صاحب الفيلم، فمنذ أن شاهدت فيلمها الأول: «أحلى الأوقات» المعروض سنة 2004 أقام لى صلة مع مخرجة نادرة، أحرص على متابعة أى عمل جديد لها. أضيف لهذا معرفتى الشخصية بها فى الأقصر، وحواراتنا الطويلة التى اكتشفت منها أن ثقافتها تتعدى السينما وكم من أعمال أدبية وكتابات فكرية ومذكرات لمخرجين عالميين اكتشفت متابعتها لها من خلال قراءة واعية وإدراك حقيقى. أيضاً فإن وعيها السياسى يصل لحدود النضج، مما يجعلنا نتوقف أمام مخرجة صاحبة مشروع سينمائى كبير، يمكن أن يضيف الكثير لفن السينما فى مصر.
«نوارة»، فيلم عن ثورة 25 يناير وإن كنت لن تشاهد فيه لقطات كثيرة لميدان التحرير عندما أصبح عاصمة من عواصم الثورة فى الدنيا, لكن هالة خليل التى تعرف كيف تتناول حدثاً سياسياً ما زال حاضراً فى الخيال الإنسانى وربما لم يعط آخر ما يمكن أن يقدمه لنا من نتائج, لن تشاهد فعل الثورة, ولكننا نتابع الأمر من خلال فتاة من حى شعبى هى «نوارة»، التى تعمل فى فيلا يملكها أثرياء أيامنا فى كومباوند، وهكذا قدمت لنا هالة الحى الشعبى الفقير الذى يوشك أن يكون حياً عشوائياً فى مواجهة مساكن الأثرياء، حيث اجتمع فى وقت واحد فى بر مصر الفقر الذى بلا حدود، والغنى الذى يفوق الخيال. من شدة تواضعها تقول هالة خليل إن فيلمها ليس عملاً عن الثورة. هى لا تعتبره هكذا. لكنه عمل عن الحلم والإنسان. وعن قدرة الإنسان على تغيير واقعه إلى الأفضل. وكل هذا تم برهافة شديدة تصل لحدود التناول الشعرى لما يجرى فى الواقع. قبل الحديث عن أداء الممثلين، أحب أن أتكلم عن صفى الدين محمود، المنتج الذى تشجع لهذا العمل وقدمه. كما لو كان ينوب عن الدولة المصرية فى رعاية فن سينمائى حقيقى يجعلنا نزهو ببلدنا ونقول إننا قد نستعيد فى يوم قريب السينما مرة أخرى، التى توشك أن تتوه منا وسط سيل من السينما التجارية التى تجعل الإنسان يخجل من أنها تنتمى لمصر.
منة شلبى، رأيت فيلمها الأول: «الساحر»، كان معنا مخرج الفيلم المرحوم رضوان الكاشف. وقد عدت معه من السينما التى عرضت الفيلم فى مدينة نصر إلى بيته. وتحدث ليلتها عن أحلام كثيرة لم تعرف طريقها للتحقيق لأنه رحل عن عالمنا بعد ذلك. أيضاً شاهدت فى «نوارة» محمود حميدة، الفنان الذى وصل لمرحلة الإجادة التى ربما تعدت الإبداع نفسه. فهو ليس مجرد ممثل، ولكنه صاحب رؤية لفن التمثيل أعتقد أنها ستضيف كثيراً لمن سبقوه من الممثلين الكبار. جسَّد محمود حميدة دور أسامة بيه، مخدوم «نوارة» يتعامل مع الحدث الكبير الذى مر بمصر بطريقته الخاصة. لا يقبل التسليم بسهولة بأن الضعفاء أصبحوا أقوياء. وأن الأقوياء انتقلوا إلى أرض الضعفاء فى تبادل للأدوار يحدث بعد الثورات الكبرى.
أمير صلاح الدين بطل الفيلم فى بطولته الأولى. وربما كان من الأعمال السابقة التى قدمها مع خالد جلال ـ مكتشف المواهب ـ قد يكون أحد أبطال عرض خالد جلال المعروف: «قهوة سادة». قام فى «نوارة» بدور على، الذى عرفنا من أحداث الفيلم أنه زوج نوارة على الورق فقط. تزوجها وما تزوجها بسبب تلال المشاكل ومرض والده الذى لا يجد ما يعالجه به. ورغم أنها البطولة الأولى لأمير، فإنه عرف كيف يمسك بعلى الذى يمثله وقدمه لنا بشكل فنى راقٍ.
يحسب لمخرجة الفيلم اختيارها لمن جسَّدوا شخصياته، وقدرتها على استخراج أفضل ما فيهم. فرجاء حسين لعبت دور جدة نوارة، التى تقدم الطعام لأهالى المنطقة البسيطة، طعام فقير بقروش قليلة لا يملكون سواها. تقدم لنا فكرة التحايل على مصاعب الحياة ومتاعبها بطرق مصرية بالغة البساطة، ربما لا نجدها إلا فى مصر.
وأحمد راتب الذى قدم دور عبد الله. أحد العاملين عند أسامة بيه. وإن كان لا يشارك الفقراء رغبتهم فى الثورة على البيه الغنى صاحب الفيلا التى هجرها وهرب. ومع هذا يستمر عبد الله فى تنظيف السيارات وحراستها، كأن أسامة بيه موجود. فى أداء أحمد راتب لا تستطيع أن تضع يدك على المنطقة التى تنتهى فيها نوارة بداخله ليبدأ أسامة بيه. فهو حائر لا يعرف ماذا يريد. وقد جسد هذا الإحساس ببراعة. لم يعجبنى فى الفيلم الحل الذى يقدمه لمشكلة نوارة وعلى، عندما تتصل بمخدومتها الهاربة فى الخارج كأحد آثار ثورة الخامس والعشرين من يناير. وتقدم لها سيدتها مبلغاً من المال. وتصف لها المكان الذى وضعته فيه. لكى تحل به مشكلتها. فإن كانت مشاكل الفقراء ستحل بإحسان الأغنياء إليهم، فلماذا قامت الثورة؟ وهل كان هناك مبرر لقيامها أصلاً؟ فالإحسان قد يكون مظهراً من مظاهر التماسك الاجتماعى، لكنه منحة يقدمها الغنى للفقير مقابل تنازلات من الفقير لا بد منها. أيضاً فإن القبض على نوارة فى آخر الفيلم متلبسة بسرقة المبلغ جعلنى أتساءل: هل النهاية مقدمة من هالة خليل لأن يكون للفيلم جزء ثان؟ ربما لم يرد ببالها هذا الخاطر، لكنه رن فى خاطرى عندما وجدتنى أمام هذه النهاية المفاجئة.