د. نصر محمد عارف
ما مصير الأوطان عندما يتحول النقد الى نقض؟
لا تستطيع الدول والمجتمعات أن تعيش بدون النقد، فالنقد هو الثروة المالية التى تقوم عليها الحياة، ويحركها ويتحرك بها الاقتصاد، وتديرها السياسة، وتراقبها أجهزة انفاذ القانون، والنقد هو العملية التى يتم من خلالها ضمان استقرار أسس ذلك النظام الاقتصادى والسياسى برمته، لأن كلمة النقد تعنى فى جذرها اللغوى «تمييز النقود لبيان جيدها من رديئها، وصحيحها من فاسدها» وكانت عملية النقد ضرورية فى زمان النقود المصنوعة من الذهب والفضة، وكانت تتم بيد الانسان وخبراته، أما اليوم فقد اخترعت أجهزة للقيام بالنقد؛ لضمان سلامة النقود الورقية من التزييف.
ونقد الشىء هو تمييز محاسنة عن مساوئه، ومن هذا المعنى جاء النقد الأدبي؛ الذى يدرس بعمق ابداعات الأدباء والشعراء لبيان مواطن الاجادة والابداع الأصيل؛ فيقويها وينشرها ويدعو للاقتداء بها وتذوقها، وكذلك توضيح أماكن الضعف للتشجيع على معالجتها وعدم تكرارها، وعليه فان النقد هو عملية دائمة فى الحياة المادية والمعنوية؛ هدفه تمييز الحسن من القبيح، والجيد من الردئ، حتى يساعد الإنسان العادى على استخدام النقود السليمة، ويحفظ عليه ثروته وماله، ويعينه على استيعاب الأفكار الصحيحة والصالحة؛ التى تمكنه من أن يحيا حياة سعيدة، يحافظ فيها على سلامة عقله وفكره، وصفاء نفسه، وارتقاء روحه.
واذا كان هذا هو النقد فما الذى يقدمه المثقفون والكتاب والاعلاميون فى مصر؟ هل يمكن أن نطلق صفة النقد على برامج شاشات فضائيات تجار عصر الانفتاح؟ أم أن هذا الذى يطالعنا به اعلام البوم والغربان ليل نهار، صباح مساء هو شئ آخر؟ ةفى الحقيقة ليس هذا بنقد، ولا علاقة له بالنقد، بل هو نقض بمعنى الهدم والتدمير، تتم ممارسته تحت شعار النقد حتى يكون مشروعاً اجتماعياً وثقافياً، فهو نقض لعرى المجتمع، وتدمير لشبكة العلاقات الاجتماعية، وهدم لأركان وقواعد الدولة من خلال نزع الشرعية عن كل انجازاتها، ونشر حالة من اليأس والتيئس فى نفوس الشعب؛ بما يعيق كل خطط التحرك نحو المستقبل.
فى 11 أغسطس 2014 نشرت مقالاً فى صحيفة الوفد عنوانه «ادمان النقد واتقان النقض» تناولت فيها جانباً من مخاطر الاعلام المنفلت من عقال الوطنية والقيم والأخلاق فى فضاء مصر، ذلك الاعلام الذى تقوده «شلة» لا يمكن اعتبارها منتجة للعلم ولا للفكر ولا للثقافة، وان كانت تظن فى نفسها كذلك، بل إنها مجموعة يندرج عملها فى اطار تسويق الأفكار، ونقل الأخبار، وترويج الطرائف، والغرائب دون التحقق منها، أو تدقيقها وتمحيصها، بل ان ما يجذبها هو غرائب الأخبار؛ وان كانت كاذبة، وعجائب الأحداث وان كانت زائفة، هؤلاء هم نجوم الفضائيات من مقدمى البرامج الحوارية، والعروض الكلامية Talk Shows، الذين أصبحوا بدرجة كبيرة، يتحكمون فى صنع، وتشكيل الرأى العام فى مصر، لأنه يملك الواحد منهم ساعات مفتوحة من الحديث المتصل فى موضوع معين، يجند له من يشاء ممن يتفقون معه؛ من جنس الخبراء والمحللين والاستراتيجيين، الذين يمنحون أنفسهم ألقابا، ووظائف تتسق وتتناغم مع موضوع الحلقة، ويغيرون الألقاب لتتسق مع حلقة أخرى فى برنامج أخر؛ قد يذاع فى الوقت نفسه، هذه الفئة من الاعلاميين تتعامل مع المعرفة، والثقافة، والمعلومة من منظور التسويق، والترويج، والدعاية، وتقدم من الموضوعات بالقدر الذى يفتح الطريق أمام الاعلانات، لأن البرنامج ومقدمه تتوقف حياتهما على هذه الاعلانات، لذلك كان الهدف هو الاعلان، وليس الفكر والثقافة، أو التوعية، أو الوطن وأمنه ومصلحته، أو المجتمع، أو التنمية، فهذه البرامج هى فى الحقيقة اعلانات تقطعها كلمات للاثارة، وجذب الانتباه من مقدم أو مقدمة البرنامج.
وبدراسة تكوين هؤلاء نجد أن معظمهم قد جاء من خلفيات صحفية، حصل على مكافأة تليفزيونية فى صورة برنامج، نظير رئاسته لصحيفة مملوكة لمالك القناة التليفزيونية، أو صحفية أثارت من الشغب والضوضاء بما جعل القائمين على هذه القنوات يخشون بأسها، أو نظير خدمات قدمها للأجهزة الأمنية فى ذاك العهد القديم، كل هؤلاء جاءوا من مواقع حققوا فيها تميزاً، وجدارة لانهم أتقنوا مهنة النقض، وأجادوا القدرة على ضرب الخصم فى مقتل، فهم قوة هجومية نادرة، تستطيع أن تجهز على الخصم، وتضربه الضربة القاضية، ضربةً ترديه فى التو واللحظة، فهم بارعون فى الهدم والتدمير، يملكون من المهارات الذهنية، والنفسية ما يستطيعون به اجهاض حجة الخصم، وافشاله، ويملكون من المهارات النفسية ما لا تملكه اى «ردَّاحة» فى حارة، ويملكون من قواميس لغة الشوارع، والمناكفات اللفظية ما لا تملكه راقصة شعبية لم تحصل على أجرها بعد وصلة رقص طويلة فى فرح.
لقد استطاع هؤلاء بنجاح نادر، يستحق الدراسة، طوال السنوات الماضية الانتقال من تبرير كل أفعال نظام مبارك، الى حالة ثورية يتعلم منها جيفارا، وفرانز فانون، ومالكوم اكس، أصبحوا ثواراً وكأنهم لم يرضعوا لبناً، وانما ثورةً، وكأنهم هم من صنع ثورات العالم، وتقمصوا الدور حتى ذابوا فيه، وأصبحوا لا يستطيعون القيام بأى شئ غيره، وأصبح النقد عندهم هو المهارة التى يجدون أنفسهم فيها، وهذا طبيعى بعد أن عاشوا دهرا مطبلين مصفقين للحزب الوطنى ورجاله، حتى تحررت نفوسهم من حالة الاستعباد، ووجدوا الحالة الثورية تقدم لهم رد اعتبار معنوى واجتماعي، وفى الوقت نفسه تدر دخلا ماليا أكبر، وهذا هو الهدف الأسمي.
هذه الفئة من الاعلاميين الذين أجادوا النقد، وتمكنوا من تحويله الى آلة نقض، أى هدم، ونجحوا من خلال نقدهم، أن يهدموا بيت العنكبوت، أى بيت الاخوان الساذجين، اكتشفوا قوتهم بعد سقوط نظام الأخوان الفاشل، الذى استطاعوا أن يكشفوا عوراته، ويحولوا قادته الى مادة للسخرية والمسخرة، وأصبح منصب رئيس الجمهورية فى عهد الدكتور مرسى مادة يومية للسخرية والاستهزاء، وقد ساعدهم مشكوراً على تحقيق ذلك.
ولكن فى مرحلة مثل التى تمر بها مصر حاليا، هل يستطيع هؤلاء الاعلاميون أن يمارسوا النقد الموضوعي، أى النقد البناء؟ هل يستطيعون التوقف عن غريزة الهدم التى ترسخت فى نفوسهم، وأصبحت مصدرا لنجوميتهم ودخولهم؟ هل يستطيعون ممارسة النقد مع البناء، وليس النقد مع النقض؟ هل يستطيعون أن يبرزوا نقاط القوة فى المجتمع؟ هل يستطيعون أن يديروا حوارا بدون توتر أو صوت مرتفع، أو تجريح؟ هل يستطيعون تقديم مبدعين ومخترعين ونقاط مضيئة فى المجتمع بدلا من الجرائم والمصائب والمشاكل؟