الأهرام
بهيج اسماعيل
التفكيـــر فى الهـــــواء الطـــلق !
انطلاقا من الإيمان بالخالق جل جلاله والأديان جميعا وأنبياء الله قدوات البشر يبرز السؤال الأهم: «هل هدف الدين هو الدعوة إلى الحياة أم رفض الحياة ؟» وبمعنى آخر «هل الإنسان هو خليفة الله على الأرض.. أم هو المغضوب عليه من الله فى الأرض وأن حياته الدنيا عقاب والموت راحة؟»..

وعلى هذا يمكننا أن نقول : «هل أساس الحياة على الأرض هو «العمل» تحقيقا للآية الكريمة «وقل اعملوا..» أم التواكل والثرثرة انتظارا للرزق وانتهاء بالموت ؟»

لم يعد السؤال هل الإنسان مسير أم مخير كما كان قديما فقد حلها المعتزلة ـ بالاجتهاد والتأمل ـ إلى أن الله يمنح الإنسان «الطاقة» اللازمة للقيام بفعل ما بينما الإنسان هو الذى يوجه تلك الطاقة إن خيراً أو شراً... ومن هنا تقع المسئولية والمساءلة.. وعذراً إذ ننحى «الشيطان» جانبا ونعفيه من المسئولية الدائمة عما يقع بيننا من شرور وجرائم.

والناس منقسمون اليوم إلى متطرفين حياتيين ومتطرفين دينيين وأما المتطرفون الحياتيون فقد أخذوا من المقولة الحكيمة «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» أخذوا منه النصف الأول فقط «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا» فاعتمدوا تملك الأراضى والقصور والسلطة والنفوذ على حساب الفقراء البؤساء بينما أخذ الدينيون ـ ولو ظاهريا ـ الجزء الثانى «واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» حتى وصل الأمر ـ فى الزحام ـ إلى بيع «الدعاء المستجير» تجاريا ومسجلا عبر «الموبايلات» رغم أنف المشترك ! وبين الفريقين وجد بعض الشباب التائه العاطل عن العمل وتحقيق ذاته.. حلا فى «الإلحاد» كنوع من الانتقام الحاد من الدولة ومن غياب العدل والهدف.. ومن الدنيا جميعاً.

نحن لا ننكر أن الحركة السريعة للعلم وللعالم وأن منجزات التكنولوجيا قد غيرت التفكير داخل العقل البشرى «بالنت وبالفيس بوك وجوجل» واللاب توب والموبايل وكل وسائل الاتصال والمعلومات الغزيرة التى يتوه داخلها العقل.. ومع تلك القفزات السريعة فى الزمن أمكن للبعض خصوصا الشباب ـ أن يلاحقها بينما البعض الآخر أصابه الذعر فانكمش داخل سراديبه القديمة يكاد يرى أن هذه علامات الساعة !

التطور إذن هو سنة الحياة.. والتاريخ البيولوجى للحياة على الأرض يخبرنا أن من لم يتطور من الكائنات ضخمة الجسم صغيرة العقل قد انقرض وتلاشي.. كما يخبرنا أن الحياة ليست عشوائية بل إنها تسير حسب قانون سماه الإغريق قديما فيما قبل الأديان «لوجوس» logos ونزلت بعد ذلك الأديان السماوية مؤكدة لنا أن هناك قانونا إلهيا يسير الكون حتى جاء العلماء حديثا بنظرية «الانفجار العظيم» التى تنافى الدين والتى تقول إن الكون نشأ تلقائيا وتدريجيا عن ذلك الانفجار العظيم لا الخلق.. ثم تهاوت تلك النظرية كما نشطت الفلسفات الوجودية الملحدة على لسان كتابات فلاسفتها الغربيين ـ عقب الحرب العالمية الثانية ـ كنوع من الاحتجاج الحاد على ذلك الموت العبثى للملايين فى الحرب!

وانتعشت تلك الوجودية بين الشباب خصوصا.. ثم هدأت حتى برز «الحاكم الأوحد» الجديد ـ والذى تمكن من إسقاط الشيوعية فى منبتها الأصلى «الاتحاد السوفيتي» وقرر هذا الحاكم الجديد أن يحكم ويتحكم فى الأرض جميعا وبرز مفهوم «الرأسمالية» والاقتصاد وتعميد مفهومى «الغنى جدا» و«الفقير جدا» وصاحب المال ورأس المال فى مقابل العامل والعمال.. حتى وصل امتداد الخط التراجيدى عمليا إلى أن تصبح المسألة تقسيما جديدا إلى «أسياد» و«عبيد» وإلى فرض النفوذ على الضعيف من الدول وإلى استغلال الدين سلاحا فى الحرب.. سيفا قديما يشحذه للمتحاربين.. وهل تقسيم منطقتنا العربية اليوم يتم بغير استغلال الدين؟ ألم تستقر المسألة بوضوح إلى اعتماد الاختلاف بين الشيعة والسنة دافعا لتلك الحروب؟ مع أن المفردات الأساسية للفريقين واحدة وهى الدين الإسلامي!

إنه التطرف والتعصب الذى يعتمد النار وسيلة لفرض الرأى بينما الدين الحقيقى يدعو إلى المعاملة بالحسنى «فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم».

هل هى مسئولية كبار رجال الدين.. الذين يفسرون ويوجهون ويغطون المجاميع بأصوات عالية ؟ هل هى مسئولية «الضمائر الغائبة» التى تغرى الآخرين على احتلالها.. إن الدول الكبرى لا تحتل شعبا إلا إذا كان غائبا عن الوعي.. نائما داخل نفسه.. شاردا فى الزمن الذى مات متمددا فى الظلام تحت قمر غائب منتظرا شمسا لن تبدو إلا إذا تبددت الغيوم !

عذراً فعقلى يسمح لى بالتفكير والتأمل عملا بالآية الكريمة «الذين يتفكرون فى خلق السماوات والأرض» أفكر فى خلق «السماوات» كما أفكر فى خلق «الأرض ومن عليها» فهل فكر رجال الدين بالعقل الذى هو منحة الله الكبرى للإنسان.. والذى هو أداة التفكير.. أم أكتفوا بقراءة وحفظ المتوارث داخل الكتب؟ هل جددوا فى الخطاب الدينى وطوروه مع تطور العقل الحديث أم أنهم مازالوا يلقون الكلمات والصيحات العالية التى لم يعد لها مدلول فى الرءوس؟

كان د. مصطفى محمود يرى قدرة الله فى العلم.. لكن «الأصولية المتزمتة» وقفت له بالمرصاد حتى منعت برنامجه الناجح المؤثر فاكتفى فى سنواته الأخيرة بالتأمل فى ملكوت الله حتى مات.

إن الإنسان لا يحيا بالجسد وحده عبدا لمتطلباته ولا بالروح وحدها زهدا فى الأرض.. فالإسراف فى أى منهما على حساب الآخر يربك الدم ويدخل الإنسان فى متاهات مرضية بينما تحتاج الحياة السليمة الى «التوازن الداخلي» والذى يسميه الناس «الرضا النفسي» والذى نفتقده اليوم فيما بين الهرولة وراء المال الهارب.. تشبثا بالحياة.. أو الدعوة بالصوت العالى والصوت فقط ـ إلى الموت زهداً فى الحياة.. وسعيا للجنة

أما الحياة نفسها ـ النبض والتحقق والمتعة ـ فتلهو بعيداً فى حدائق الأطفال.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف