“ماذا لو أحبتْ زهرةٌ فارسًا؟ وماذا لو كان الفارسُ أسيرًا في سجن بعيد فوق ربوة لا يصلُ إليها إلا بعضُ العصافير تأتيه بحفنة من الشعير والقمح كل نهار، ثم تتركه في محبسه وحيدًا؟ وماذا لو تاقتِ الزهرةُ إلى حبيبِها السجين، فنادته؟ السجينُ، سجينٌ لا يستطيع فرارًا. والزهرةُ، زهرةٌ، لا تقدرُ على الطيران أو الركض نحو حبيبها. تناديه عن بُعدٍ. ويناديها عن بُعد. والفضاءُ بينهما يتلفتُ يمنةً ويُسرةً ولا يقدرُ إلا أن ينقل نداءاتِهما. وفقط. ويظلُّ الفراقُ... فراقًا.”
الزهرةُ
التي أحبَّتْ سجينًا،
تسكنُ أرضَ طيبةَ الشاسعةَ
ويسكنُ
قلعةً مدفونةً في جنوبِ الوادي.
تظمأُ الزهرةُ
فتناديه:
«أدركْني يا حبيبي أنا ظامئةٌ!»
يهرعُ بكأسِ الرِّيّ
مِن بين قُضبانِ المحبَسِ
يمدُّ ذراعَه على طولِها
لكنَّ الذراعَ قصيرةٌ
والزهرةُ
مزروعةٌ في أعالى الربوة
تسقطُ الكأسُ من يده المرتعشةِ
عند ساقهِا
ويُهرَقَ الماءُ
يسقي الطَميَ الغَنيَّ الذي يضحكُ
والعُشبَ النامي عند قدميها
وتبقى الظمآنةُ
ظمآنةً
فتبكي
وتشربُ دمعَها.
عند الفجرْ
يتكاثفُ الصقيعُ حولَ أوراقِها الخُضْرْ
فترتعِدُ بِتلاّتُها
ترتجفُ
وتهتفُ:
«أدركْني يا حبيبي البعيدْ أنا بردانةٌ!»
فيصحوُ من غَفوتِه
يركضُ في محبسِه
صوبَ كُوّةِ النورْ
يمسكُ القضبانَ بأصابعِه العشرة
ويُنادي:
«أنا آتٍ يا حبيبتي
أدفئُك
سآضمُّ صدرَك إلى صدري
وأخبِّئ خِباءَكِ في خِبائي
وأحضنُ مَيْسَمَك الذي سيحملُ أطفالي
حتى يذوبَ الجليدُ عن جسدِكِ الغَضِّ
فانتظري.»
وتنتظرْ.
يصارعُ قُضبانَ القفصْ
يُلخلِخُها
يتعلَّقُ في جنازيرِها
يصرخُ
تتشقّقُ كفّاه
ينزفُ
يدورُ في زنزانتِه
مثل أسدٍ غضوبْ
ينطحُ الجدرانَ برأسِه
يدْمَى
ولكنْ
لا جدارٌ انهدمَ
ولا سقطَ قضيبُ سجنٍ.
يهمسُ في خجلٍ:
«سامحيني يا حبيبتي!!
أنا سجينٌ ها هنا
فتعاليْ إليَّ في سَجني
واسكني قفصي
فثمّة مُتَسعٌ
لي ولك!”
الزهرةُ
التي مزروعةٌ ساقُها في طمي طِيبة
تشخصُ نحو الأفقِ البعيدْ
حيث الفجرُ يوشكُ أنْ يُشقشِقُ
تبكي حتى ترتوي أوراقُها بالدمعِ
تُطرِقُ برأسِها
على ساقِها
وتنامْ.
***