الوطن
كمال زاخر
الصوم الكبير (2)
برع الأقباط فى توقيع إيمانهم على الزمن، فقسموا السنة إلى مواسم ارتبطت بالتقسيم المصرى القديم، الزرع والحصاد والفيضان، واختاروا أن يأتى صومهم الرئيسى قبل الاعتدال الربيعى المواكب لقيامة المسيح الذى بدأ بعده ربيع الأبدية الذى لا ينتهى، والذى تأسس على المصالحة التى أتمها المسيح بين الإنسان والله اللذين التقيا فى شخصه.

ويسمى الصوم الأربعينى تأسياً بصوم المسيح نفسه لمدة أربعين يوماً قبل أن يبدأ خدمته، وكانت الكنيسة تخصص أسبوعاً منفصلاً، ثم ضمته للصوم الأربعينى، يُعرف بأسبوع الآلام، لاستعادة الأحداث التى انتهت بقيامته فى تصاعد درامى يبدأ بدخول المسيح مدينة أورشليم والاستقبال الحاشد له كملك ومخلص، الأمر الذى أثار حفيظة الكهنة وحراس المعبد، لتبدأ خطة التخلص منه، وتلتقط الكنيسة خيوط التصعيد وتترجمها إلى صلوات وقراءات منتقاة، تبدأ يوم السبت بمعجزة إقامة لعازر بعد موته بأربعة أيام، فى إشارة لحاجتنا إلى أن نقوم من موت الخطيئة ونثق فى قدرته على إقامتنا منها حتى وإن استغرقتنا إلى درجة التحلل، ثم الأحد مع دخول المسيح الانتصارى إلى المدينة المقدسة، وتنبهنا إلى استقبالنا له فى قلوبنا ملكاً وسيداً، وتقرأ يوم الاثنين واقعتين؛ الأولى عندما مر المسيح بشجرة التينة المورقة والمزدهرة لكنه لم يجد بها ثماراً (فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق وجاء لعله يجد فيها شيئاً فلما جاء إليها لم يجد شيئاً إلا ورقاً لأنه لم يكن وقت التين. فأجاب يسوع وقال لها لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد) تحذيراً من أن تتحول العبادة إلى مظاهر دون ثمر، ثم حادثة تطهير المسيح للهيكل من الباعة والصيارفة، لتؤكد قدسية العبادة وعدم انشغالنا فيها بغيرها.

وتخصص يوم الثلاثاء لتعليم المسيح عن الملكوت بعد أن كشف زيف التدين السائد، ويأتى الأربعاء ليسرد اتفاق يهوذا مع كهنة اليهود على تسليم المسيح، ويؤسس المسيح يوم الخميس للعهد الجديد مع تلاميذه فيما عُرف بالعشاء الأخير، ويأتى يوم الجمعة لتمتد صلواته بطول اليوم تجمع كل النبوءات التى احتشدت بها التوراة وكتب أنبياء العهد القديم عن عمل المسيح الخلاصى وتقرنها بما سجلته الأناجيل عن التطبيق الفعلى فى أحداث القبض على المسيح ومراحل محاكمته أمام السلطة الدينية والسلطة المدنية التى انتهت بصلبه وموته ودفنه.

تقضى الكنيسة ليلة السبت فى صلوات وقراءات ممتدة عن الملكوت والأبدية التى أعادنا إليها المسيح بموته، تختتمها بقراءة سفر الرؤيا الذى يتكلم عن أحداث الأيام الأخيرة للعالم وما بعدها بشكل رمزى محمّل بمفاهيم لاهوتية عن الحياة الأخروية، حيث نتلاقى حول العرش الإلهى فى فرح لا يُنطق به ومجيد. ثم ينتهى الأسبوع بالاحتفال بقيامة المسيح منتصراً، ونحن معه وفيه، على الموت، بعد أن أعاد افتتاح الفردوس الذى أُغلق فى وجه آدم وبنيه بعد العصيان والانفصال عن الله، ولهذا أطلق الآباء على هذا الصوم: الصوم الكبير، ووصفوه بربيع السنة، وبعضهم قال إنه خزين السنة، لما فيه من زخم تعليمى روحى ولاهوتى يحتاجه المرء فى مسيرة حياته لمقاومة صراعات الذات والأنا، إذ يتأكد فيه معنى الترك والبذل وضبط الشهوات والإيثار والخروج إلى الآخر.

وفى هذا يقول القديس أثناسيوس الرسولى: «فالمطلوب ليس فقط أن نصوم بالجسد، بل بالنفس التى تتذلل عندما لا تتبع آراء شريرة، بل تتغذى بالفضائل اللائقة؛ البر والاعتدال والتواضع والثبات، لذلك يا أحبائى، إذ تغذت نفوسنا بالطعام الإلهى، بالكلمة (أى بالمسيح)، وبحسب مشيئة الله، وصُمنا جسدياً عن الأشياء الخارجية، فلنحفظ هذا العيد العظيم كما يليق بنا».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف