عاد «طارق» إلى مصر منتعشًا.. إحساسه بنفسه أخف من عصفور، أثقال تنوء بها الجبال كان يحملها وحده، ولا يتجاسر على الحديث بشأنها حتى مع «شهد».. فعلتها «جيسيكا» وأهدته أغلى الأشياء.. راحة البال.. والضمير..
الكل كان فى انتظار عودته.. أولهم «شهد».. طبعًا لم تطق البقاء في البيت حتى يصل.. ذهبت إليه، وكانت أول المستقبلين في المطار، ومعها «ليلى» و«سيف».
انطلقت بهم السيارة إلى «بيت العيلة» كما أسمته «شهد» بعد أن تحوَّل إلى ملتقى لمجموعة من البشر يتقاسمون الإحساس نفسه، ويسبحون على أمواج الشعر والفن والجمال.
كان العشاء جاهزًا.. أعدته «شهد» بنفسها وأنفاسها، فصنعت أطباقًا بطعم الحب، لكنها صاحبة «ستايل» في ترتيب تلك الأمسيات الحميمة.. تفترش المقبلات والمكسرات والمشروبات على مائدةٍ جانبيةٍ طويلةٍ عليها مفرش ذو نقوشٍ جميلةٍ مطرزٌ بالـ«كانافاه»، وحول الأطباق والزجاجات وعلب المشروبات المعدنية (الكانز) تضع عشرات الأكواب والأطباق.. الشوك والسكاكين والمناديل الورقية.
وبينما يعزف «محمود» الشاب العشريني الحالم أنغام أغنياته ومقطوعاته الموسيقية على أوتار العود الأبنوسي، يلتف الشباب والشابات من أصدقاء «ليلى» و «سيف»، ومريدي «طارق» من تلامذته طلبة الجامعة الذين لطشتهم موجة الشعر والأدب.
يجلس الجميع الكبار والصغار في حضرة الفن والموسيقى، حيث تذوب الفوارق وتسقط الحواجز، فتجد من يدندن مع جزء يثير فيه الحنين إلى الذكرى، ومن يحرك إحدى قدميه مع «رِتم» يحبه، ومن يغوص بملامحه في جملةٍ موسيقيةٍ، فيرتفع صوته بالغناء ويعلو إحساسه حتى يلامس عنان السماء.
الجلسة الحميمية في «بيت العيلة» تسبق العشاء الرسمي المعد هذه الليلة فقط وبشكل استثنائي على شرف «طارق» الذي غاب عنهم أسبوعين، لذا فالاحتفالية هذه الليلة خاصة جدًّا.. الغناء والشعر والموسيقى.. المقبلات والمشروبات أولاً تتخللها حكايات «طارق» التى تمثِّل الفقرة الرئيسية في كل الأمسيات، ثم تختتم بالعشاء الفاخر المعجون ببهارات الحب!
***
رقَّ الحبيب وكان له مدة غايب عني
صعب عليَّ أنام أحسن أشوف في المنام
غير اللي يتمناه قلبي.. سهرت أستناه
وأسمع كلامي معاه.. وأشوف خياله قاعد جنبي..
وأشوف خياله.. خياله قاعد جنبي..
من كتر شوقي سبقت عمري
وشفت بكرة والوقت بدري
وإيه يفيد الزمن مع اللي عاش
في الخيال.. واللي في قلبه سكن..
يذوب الجميع مع كلمات أغنية «رقَّ الحبيب» لـ«ثومة» (أم كلثوم) وألحان رياض القصبجي التي تخترق القلب.
تنساب الدموع من عينيْ «طارق» وهو يستمع إلى عزف «محمود» وغناء «سلمى».. هذين الشابين اللذيْن تتلمذا على يد مايسترو عظيم هو «سليم سحاب» الراهب في محراب الفن.. يذكرني بـ«جاديليو» المايسترو الجليل في فيلم عبد الحليم حافظ.
وتطلب «شهد» من الفنانيْن الشابيْن أغنية «أمانة عليك يا ليل طوِّل.. وهات العمر م الأول».. يدندن الجميع مع ضربات الريشة التي تصدح بها أوتار العود تحت يديْ محمود، ويصفِّق الجميع مع نغمات الموسيقى التي تفتح أبواب الماضي المغلقة، فتخرج منها نسمات الحب ونفحاته لتضيف إلى العمر عمرًا، وإلى اللحظة أعماقًا لا حدود لها ولا نهاية.
إنها أمسيات «شهد» و «طارق» التي ترضي جميع الأذواق، وتجذب الشباب قبل الكبار.. طارق بـ«كاريزمته» الطاغية يشد الجميع للاستماع إلى حكاياته، وفي كل حكاية حكمة أو مغزى أو درس أو تجربة مثيرة تستحق أن تروى.