أنور عبد اللطيف
هوية تستغيث ومحافظ يبكى وعلماء يتجادلون !
جلست منبهرا أمام كنوز أعظم معمارى فى القرن العشرين، ثم حائرا قرب نهاية الفيلم التسجيلى والحوارالذى نظمته نقابة المهندسين وقسم العمارة بكلية الفنون الجميلة لإحياء مشروع حسن فتحى، ثم وجدتنى معلقا فى الهواء حينما اتجهت المناقشات التى قادتها الدكتورة زينب الديب الأمينة على وصايا وخبيئة أبو العمارة الحديثة حسن فتحى للبحث عن المجرم الحقيقى الذى أهال التراب على مشروعنا الحضارى الفريد، وطالبت بإطلاق مشروع هوية الأمة من منزله بدرب اللبانة ، إلى أن خرج اللواء عشماوى محافظ الوادى الجديد عن صمته وهدوئه وأقسم «برأسه وألف سيف» أنه لن يبرح هذا المكان إلا بخطة محددة فى يده لإعادة الروح لمشروع بناء القرية المصرية انطلاقا من نموذج قرية باريس، وأصر المحافظ أن تكون بداية ثورة تجديد الخطاب المعمارى من القرية ذاتها التى بدأها قبل أكثر من ستين سنة أبو العمارة الانسانية فى العالم.
كنت مقتنعا أن المادة الأولى فى دستور الفساد والتخلف هى عرقلة أى خطوة تحفز الشعب على معايشة العصر، والإنطلاق للأمام ومنعه من استلهام دروس الماضى لمعرفة سر حضارة الأجداد التى تحدت الزمن، لكنى اكتشفت ان المؤامرة الآن تتلخص فى تحويل حماس الشعب بعد ثورة 30 يونيو الى طاقة معلقة بين السماء والأرض !
وقد كان ناموس اخطبوط التآمر على الدولة المصرية لعقود طويلة مضت يبدأ بمنع أى مشروع يعطى ثقة للمصريين فى أنفسهم بوأد الفكرة فى مهدها، وإذا قدر للفكرة أن تولد فى شكل دراسات جدوى وابحاث ورسوم تخطيطية يتم دفنها على هون فى التراب او حشرها فى أدراج وسراديب روتينية ممهورة بخاتم «لا توجد إمكانيات» . لكن أن تولد الفكرة وينمو الحلم بخيال وفكر ورؤية حسن فتحى ويصبح حقيقة على أرض مصر ويتم تنفيذه فى مشروعات تبدأ من جنوب البلاد فى أسوان وشلاتين إلى شمالها فى سيناء وفى الوادى الجديد وفى قرى بالمنوفية والفيوم وسوهاج والأقصر، وأن أرى مشاعر الفلاحين وقد ترجموا فرحتهم الى رقصات وطبول وزغاريد بالحياة الجديدة وآدميتهم وهويتهم الوطنية وبناياتهم من خامات البيئة، وأشاهد افتتاحات لحقول ومشاريع صناعية وزراعية وقرى ومحاصيل يحضرها كبار رجال الدولة، ثم فجأة يختفى المشروع من الوجود ويطويه النسيان لمدة نصف قرن هذا مايدعو للعجب، والأعجب منه أن يطفو المشروع على السطح الآن من جديد ومعه كل عناصر النجاح بدءا من العثور على كنوز ووصايا العالم المصرى الكبير وحماس الدكتورة زينب الديب ـ وهى إحدى تلميذاته ـ واستعداد رفقاء دربه ومحبيه على إكمال المسيرة وفى يدهم خبيئة تضم حصاد 30 سنة من الأحلام والاسكتشات والتصميمات الجاهزة للتنفيذ بخط حسن فتحى تتكون من 5 آلاف سلايد و230 بحث وعشرة آلاف صفحة من الرسوم المعمارية، ثم نضيع الوقت فى الجدل العقيم ولا نبدأ بالإجابة على الأسئلة؟
مالذى جرى بين السبات العميق الذى مات فيه المشروع وبين عودة الوعى الآن، وكيف يتم استثمار حماس الرئيس السيسى لإعادة بعث الهوية والتراث المصرى فى الفنون والعمارة بحيث تتحول الدعوات لإقامة مركز حسن فتحى للعمارة إلى انطلاقة حقيقية لمشروعه المتكامل فى النهوض بحياة ثلثى سكان مصر من البسطاء سكان الريف وأهل البيادى، أم تضيع من بين ايدينا الفرصة ونمارس هوايتنا فى قتل اى مشروع فى سراديب الجدل ليموت إبداع «حسن فتحى» الى الأبد؟
نقطة ضوء فى وطنية وأهمية مشروع حسن فتحى للأمن القومى جاءت من شهادة اللواء يوسف صبرى أبو طالب حين كان وزيرا للدفاع عام 1990 وقوله : أن مشروع حسن فتحى تتوفر فيه المقومات الأساسية للحياة الكريمة للمواطن بأقل التكاليف ويتمنى أن تنتشر مدرسته فى العمارة فى كل ربوع مصر وقد شرفت بالعمل على تطبيقها فى شمال سيناء حين كنت محافظا لها.
ثم تكشف شهادة الدكتور أحمد جويلى وزير التجارة والتموين عام 1993 عمق المؤامرة حين يقول: أعلم قدر المعاناة لبعث مثل هذه الأفكار الأصيلة من جديد فى مجتمعنا الذى اختطفته أفكار غريبة علينا، ويحتاج الى محاربين أشداء وشجعان لنجاح وتحقيق بعث حقيقى للروح المصرية فى التنمية ولمشروع حسن فتحى لإحياء القرية الريفية المعاصرة بفكر هذا الفنان المبدع.
ثم تأتى شهادة الدكتور فؤاد رياض خبير القانون الدولى وصديق ورفيق درب حسن فتحى فيقول: كانت أمنيته بعد التخرج أن يبنى أول بيت للطبقة المتوسطة، وبعد فترة صار هذا البيت مزارا للطلبة والباحثين والدارسين، وجاءه أحد العلماء الأمريكيين وطلب بناء بيت مماثل فى واشنطن فرفض حسن وبنى بيتا من البيئة الأمريكية، وعندما قال له من حقك أن تتقاضى مقابل الملكية الفكرية رفض وقال: هذه رسالتى للناس فى كل مكان، ورغم أن حسن فتحى بنى للبسطاء من الهند إلى السند والباكستان وأوروبا الا أنه مات كمدا عندما رأى أن فكره لم يقدر بالشكل الكافى فى وطنه، وأظن انه يرقبنا الآن بأمل، فهل نستطيع أن نعيد له ابتسامته؟
الاجابة على تساؤل الدكتور رياض جاءت من حماس المحافظ النشيط للوادى الجديد اللواء محمود عشماوى حينما طالب جموع الحاضرين عدم إضاعة الوقت فى زكريات الماضى الحزينة والإنطلاق نحو المستقبل، واتفق الحاضرون على مجموعة عمل من العلماء والخبراء والمعماريين يلتقون بالوادى الجديد الأسبوع القادم، ثم تساءل: ماذا نفعل الآن؟ وأضاف: كنت أمر على معمار وأطلال قرية باريس وتأملت الأفكار الهندسية والعصرية التى تناسب حرارة قد تزيد خمسين درجة مئوية، وكيف تحافظ على برودة المنتجات؟ وماسر هذه العبقرية المصرية فى البناء وهل أقيمت لتسكنها الخفافيش والغربان؟ ولمصلحة من دفن هذا التراث تحت الرماد؟ وكيف نستطيع تحويل عمارة حسن فتحى الى مقصد سياحى جديد لتنضم الى كنوز المعابد النادرة التى يذخر بها الوادى الجديد، وتتحدى معابد اثينا وروما وبرلين.
وأكاد ألمع الدموع فى عينى المحافظ وهو يحكى مشاعره عندما رأى تراث أعظم معمارى فى القرن العشرين وسليل بناة الأهرام وهو يحتضر وكأنه يستحث بدموعه أمة بكاملها ـ وليس أعضاء الندوة فقط ـ على النهوض لإنقاذه، ولازلت أسمع صوته يستنفرنا: هيا بنا .. هيا بنا نبدأ !