الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
رشَّه جريئة !
عام 2001م قدم المخرج سعيد حامد مع كاتب شديد الخصوصية هو ماهر عواد، فيلماً حمل عنوان رشة جريئة، تدور أحداثه فى اطار ساخر ينطلق من واقع مر، حول اثنين من الشباب (سلماوى / أشرف عبد الباقي)، و (ميما / ياسمين عبد العزيز)، أصحاب موهبة فى التمثيل، ويحلمان بالالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، لكنهما يصدمان بامتحانات القبول التعجيزية ويحاولان الدخول الى عالم التمثيل عن طريق أى باب آخر.

كلاهما (سلماوى ميما) يجمعهما مشهد فى الربع الثانى من الفيلم، يمكن التوقف أمامه كثيراً، حيث الممثل الموهوب الذى يصارع ليوجد مساحة مسرحية يضمن خلالها حضوراً يلفت الأنظار اليه، بينما تسوقه الأقدار ليرتدى زياً نسائياً، بينما يناديه الضابط على المسرح باعتباره والمخرج اضافة للمسرحية فيقرران منحه الفرصة، وفى الليلة التالية للعرض يدخل سلماوى العسكرى بفستانه فتنطلق ضحكات الجمهور من جديد بينما ينبرى أحد المشاهدين مقاطعاً (ايه الابتذال ده، هذا تشبه بالنساء والتشبه بالنساء حرام راعوا الله فيما تقدمون) ثم يجر زوجته وابنته ويغادر العرض، يجلس (سلماوى) مكتئباً متسائلاً (هل ما يقدمه اسفاف وابتذال)، لكن (ميما) تشرح له أن المتفرج لم يكن يقصده على الاطلاق ولكنه (كان عايز يقول للى حواليه أنه الوحيد اللى عنده مبادئ وأخلاق وأن الباقين ما عندهومش)، وعندما استوعب (سلماوى) الهدف أكد أنه كان يجب أن يرد عليه، فقاطعته (ميما) بحسم (كده غلط لأنك كده تبوظ اللعبة) وراحت تشرح تفاصيل الأدوار فيها (هو عمل فيها انه شريف وعفيف وانت عملت فيها شريف وحساس تبقوا خالصين)، وبعدها يفصل السيناريست ماهر عواد الصورة عبر استعراض غنائى مطلعه يقول (عيل صغير عمل لصاحبه ايديه مسدس وقاله طاخ، قام صاحبه طاوعه وساق له فيها وأهله قالوا ده طخُهْ طخْ .. أهى دى أصول اللعب الرايق، وشك يضحك لو متضايق).

وبعد ما يزيد على خمسة عشر عاماً يتجلى المشهد الوطنى عموماً والاعلامى على وجه الخصوص، ليكشف لنا أن اللعبة التى تلقى أول دروسها الموهوب المصرى الريفى (سلماوى) من زميلته (ميما) تحولت الى قانون عام يلتزم بمعاييره السواد الأعظم من متصدرى المشهد، ليرتدى الجميع أقنعة فوق وجوههم تؤهلهم لأن يكون (وشهم بيتضايق وهو بيضحك) أو العكس. وبهذا يطغى على المشهد غير أصله، وتصبح الانفعالات مجرد (هدف) يحرزه المتحاورون فى ساحات الكلام، ويغدو المتلقى لقمة سائغة فى أفواه تلوك أوجاع الحاضر لتصدرها (برامج توك شو) أو (مانشيتات) أو (تصريحات رسمية أوغير)، وهكذا تتحول صورة الواقع الى حلبة مصارعة حرة يدير نجومها الاتحاد العالمى للمصارعة، ويقدم نجومها جولات دورية من الصراعات فى الهواء مستخدمين وجوها تتغير مواقعهم من الخير والشر والشجاعة والجبن حسبما ترى (السلطة) التى يلعب دورها المصارع (ماكمان) وعائلته.

فى صورة واقعنا تجسيد حقيقى لمعاناة (سلماوى المصرى) صاحب الموهبة المغترب فى القاهرة بحثاً عن ثقب فى نافذة الوصول، وعلى نافذة الوصول عشرات الوجوه الجاثمة والكروش المتحكمة والعقول المتكلسة، جميعها يترصد كل موهوب بعين القلق من منافس جديد على مساحات الطلة، وبالتالى فهو عدو لدود يهدد مستقبل الطرح الذى ينبغى أن يسيطر حتى لا تبور بضاعة بارت يوم أسقطت الارادة المصرية نظاما بالخلع وآخر بالعزل.

وهكذا صار على النظام الحالى أن يسير حاملاً على ظهره كآبة (أنظمة تهاوت)، وأوزار (أفكار) لم تصدر للجمهور ولا تزال- الا صراخاً لا يُنَبِّه، وضجيجاً لا يُخلف طحناً، ومعارك يكسب فيها من يديرها ويخسر المتفرجون وعيهم ونقودهم وبقايا حضارة قديمة.

ويسوقنا ذلك الى تساؤلات أساسية فى المشهد الحالى، ما هو الفرق بين (امتحانات القبول التعجيزية) لأصحاب الموهبة فى معهد الفنون المسرحية حسب سيناريو (رشة جريئة)، وبين مساحات القبول للأراء الجديدة فى أى من مجالات البناء فى مصر الآن؟، كم معركة كلامية نشبت بين وجوه اعلامية بارزة وصلت لحد السب والقذف ثم سرب الواقع صوراً لاجتماعات هذه الأطراف فى البيوت والمطاعم أوالمحافل العامة؟ هل حقاً من يملأون الحياة صخباً بادعاء الدين أو الوطنية أو الثورية يستهدفون حقيقة شعاراتهم الحنجورية أم هم كما شرحت (ميما) فى الفيلم (عايزين يقولوا لغيرهم احنا عندنا مبادئ وانتوا لأ)؟، وأخيراً لا آخراً هل هذه اللعبة الهادمة باتت دستوراً لايمكن الحياد عنه، أم أن الواقع يفرض على ولاة الأمر فى هذا الوطن أن يجرموا اللعب فى زمن تطرق مهدداته جميع الأبواب؟

اننا يا سادة فى مرحلة مفصلية من عمر هذا الوطن، نعيش كل تجليات المؤامرات وكل أشكال التأزيم ومخططات الارباك والانهاك، ربما كان مقبولاً فى نظام استقر فساداً وأحكم قبضته افساداً أن يتاجر من يشاء أو يلعب من أراد، ولكن مصر اليوم غير تلك التى كانت بالأمس، وتسيير الأمور بمنطق الشبهية أن يؤدى كل منّا دوره فى الحياة بالشبَهْ لا بحقيقة الدور- أصبح خطيئة تستلزم التطهر، وتعميم دراما البرامج الحوارية بفلسفة (المَلْوُ والحشو وتسخين الزبون) ربما يكون مقبولاً فى (المصارعة الحرة) لا فى الأمم المستهدفة، فما أحوج واقعنا الى (رشة جريئة) تسكن غباراً يحجب الرؤية، وتكشف أقنعة تستثمر الهم، وتروى براعم أمل فى نفوس أهل مصر -رغم التحديات- قادرة على حمل الراية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف