لا شىء أخطر من الاستهتار، لا شىء أكثر قدرة على إرباك كيان الدولة، وهز صورتها فى عيون وعقول الناس من استهتار مسئول بكلمته أو تصرّفه أو فعله.
عدم إدراك المسئول، سواء كان وزيراً أو مديراً فى مصلحة حكومية لقيمة الكلمة التى تخرج من فمه، ومدى قدرتها على هدم كيان دولة أو رسم صورة سيئة السمعة لوطن، تلك هى الكارثة.
يحتاج أصحاب الكلمة والنفوذ والمسئولية داخل المصالح الحكومية إلى إدراك مقتضيات وظروف وظيفتهم، والتأكد من أن كل كلمة أو فكرة صادرة منهم لا بد من تمريرها على ميزان من ذهب، من فرط حساسيته لا يخطئ أبداً، وإلى عقل قادر على ميزان وحساب كل شىء، من فرط دقته، يظن البعض أنه لم يخلق مثله أبداً.
كل كلمة تخرج من على لسان وزير أو محافظ أو مدير فى هيئة من هيئات الدولة قادرة على أن تضر هذه الدولة أو تفيدها، والضرر والإفادة هنا قد يتعلق بأمور معنوية أكثر منها مادية، بأن تفشل الدولة فى رسم صورة قوية لها فى أذهان المواطنين ودول العالم، هذا ضرر أخطر من أى شىء، أن يرسم المواطن صورة فى ذهنه للمسئولين بأنهم أصحاب الوعود الزائفة والتصريحات المنضبطة، هذا ضرره فقدان الثقة، ودون ثقة وتواصل تفقد الدولة قوتها، أن يكون تعريف المسئول فى ذهن أى مواطن أنه هو الوزير أو المحافظ الذى يقول بما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول، ويبهرنا كل فترة بتصريح كوميدى يفتح باب إنتاج الإفيهات والسخرية من الدولة وهيبتها، فهذا أصعب ما يُمكن أن يمر فى علاقة الدولة بمواطنيها، لأن السخرية من الهيبة تؤدى إلى تآكل جدار الثقة بين من بيده زمام الأمور، ومن ينتظر الحلول.
ليس عيباً أن يطلب الوزراء التدريب، وليس جُرماً أن يتم إعادة تأهيل المحافظين، وليس بدعة أن يتم تعيين عدد من الشباب فى كل وزارة وكل مصلحة حكومية لمساعدة السيد المسئول على صياغة بياناته وكلماته وحمايته من نفسه الأمّارة بالجرى خلف الشو الإعلامى، حتى لو تم الأمر على حساب الوطن، ليس عيباً أن يتم وضع قواعد محدّدة، متى يتكلم الوزير أو المحافظ؟ وكيف؟ وبأى طريقة؟
الكلام دون مذاكرة تنتج عنه دوماً وأبداً تصريحات شديدة الهزلية تؤثر على هيبة الدولة، وتفتح الباب للمزايدة عليها، وفى الأيام الماضية وصلت هذه التصريحات المسئولة إلى ذروتها، فماذا تتوقع من مواطن يسمح رئيس مصلحة السجون، وهو يصف سجون مصر بالمنتجعات، ويصل إلى مرحلة التجويد، ليُخبر الناس بأن بعض المساجين يرفضون الخروج من السجن بعد تأدية مدة العقوبة، بسبب الرفاهية التى يتم توفيرها داخل السجون، ربما يكون الحال داخل السجون الآن من حيث الإمكانيات أفضل من أزمنة فاتت، لكن كمية الحوادث والأخبار المنتشرة عن تدهور التهوية فى الزنازين، عن سوء الأطعمة، عن العنابر غير النظيفة، عن المعاملة غير الآدمية لا تتناسب أبداً مع هذا التصريح غير الوردى من السيد رئيس مصلحة السجون، ثم محاولته التجويد وتأكيد أن السجناء يرفضون الخروج تؤكد لك أننا أمام مسئول يريد بيع الميه فى حارة السقايين، مثله مثل عضو غرفة تنشيط السياحة الذى تكلم فنطق عبثاً حينما أكد أن حادث اختطاف الطائرة المصرية أفاد السياحة المصرية، لأنه جعل اسم مصر الأكثر ترديداً فى كل وسائل الإعلام، مثله مثل مدير مصلحة الرى، الذى يظن النيل عزبة توارثها عن أجداده، فخاطب صحفيين يسألون عن معلومة، قائلاً: مستوى منسوب النيل مش من اختصاصكم ولا شأن لكم به.
عموماً إذا كان هذا ما تزرعه الحكومة ومسئولوها من تصريحات، فلن تحصد من الناس سوى المزيد من فقدان الثقة والسخرية.