يلتقى نبى الله «محمد» مع النبى موسى فى عشرين وجهاً، أحدها أنهما وُلدا يتيمين، وربتهما أمهاتهما، ويتشابه الاثنان مع عيسى ابن مريم، عليه السلام، فى غياب الأب والدور المحورى للأم فى حياتهم.
اليُتم غربة، اليتم وحشة ما بعدها وحشة، اليتم ألم دفين فى النفس، لكن الله قد يُخفى عطاءه فى منعه، فقد يمنع مع العطاء، ويعطى مع المنع، فربما أعطاك ليمنعك، وربما حرمك ليعطيك.
ولعل بعض الذين نشأوا مدللين عابثين يملكون كل شىء أفسدهم العطاء اللامحدود، ولعل بعض الذين حُرموا المال فأصابهم الفقر أصبحوا من كبار الزهاد والكرماء، ولعل بعض الذين حُرموا نعمة البصر رزقهم الله البصيرة، وبعض الذين وُلدوا أيتاماً تفجّرت مواهبهم وملكاتهم وصارعوا ظروفهم العصيبة فقهروها وتحدوا الحرمان وغياب الأب وحنانه، فصاروا من العظماء والعلماء والكبار.
فخر لكل يتيم أن ينتمى إلى أعظم رسول «خاتم الأنبياء»، ويدخل تحت لواء موسى بن عمران، نبى بنى إسرائيل العظيم، الذى واجه استبداد فرعون، وأن يكون منهم الزبير بن العوام، حوارى رسول الله، وأنس بن مالك، خادم رسول الله الأمين، وأبوهريرة، راوى رسول الله، الذى سخّر حياته كلها لحفظ أحاديث الرسول وروايتها، تاركاً التجارة وصفقاتها، وعبدالله بن جعفر، ابن الطيار بطل وقائد معركة مؤتة، الذى رفض ترك الراية، واليوم يريد البعض أن يبيع راية هذا الدين العظيم بأبخس الأثمان وأخسها.
ومنهم من تسامى على اليتيم وارتفع بنفسه على آلامه وجعله دافعاً ليكون من أعظم العلماء فى زمانه، ومنهم سيد التابعين سفيان الثورى، وعالم المدينة العظيم وأحد فقهائها السبعة القاسم بن محمد بن أبى بكر، حفيد الصدّيق وزير النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، وإمام أهل السنة، أحمد بن حنبل، والشافعى، أعظم فقهاء المسلمين قاطبة ومؤلف علم أصول الفقه أدق علوم الإسلام كلها، والبخارى، طبيب الحديث، وحجة الإسلام أبوحامد الغزالى، الذى ملأ الدنيا علماً وفقهاً وزهداً، وابن حجر العسقلانى، أعظم شارح للبخارى، وابن الجوزى، أعظم خطيب وواعظ فى زمانه وأكثر علماء عصره تصنيفاً وتأليفاً، حتى إنه كان يكتب فى كل يوم كتاباً، وجلال الدين السيوطى، الذى ملأ الآفاق علماً وتصنيفاً، والأوزاعى، عالم الشام العظيم.
ومن الأيتام أيضاً عبدالرحمن الداخل، صقر قريش صاحب العزمات، التى لم يعرف التاريخ مثلها، وطارق بن زياد القائد العبقرى فاتح الأندلس، وعماد الدين زنكى، أول من تحدى الصليبيين، وفاتح الباب لنجله نور الدين محمود، أستاذ صلاح الدين الأيوبى، محرر القدس، وبيبرس، القائد المغوار الذى لم يُهزم فى معركة قط، والذى دوّخ التتار وأذل الصليبيين وأراهم من الهزائم ما لم يتخيلوه فى أى كابوس.
ومنهم مانديلا، الذى مات والده فى صغره، فرباه خاله وجهّزه ليقود قبيلته ويحل محل والده الذى كان أشبه بنائب الحاكم لقبيلته، والذى تعلم من اليُتم والسجن قيم العفو والإحسان والزهد فى السلطة والمال، فأصبح رمزاً عالمياً للإصلاح والعفو.
والملك إدريس السنوسى، وحافظ إبراهيم، شاعر الشعب العظيم الذى كانت قصائده تُحفظ عن ظهر قلب فى يوم إلقائها، وأحمد ياسين، المجاهد الفلسطينى العظيم، الذى لم تُطق إسرائيل بقاءه حياً رغم شلله الرباعى، وجمال عبدالناصر وغاندى، وكلاهما أراد أن يبنى دولته بالعرق والدموع والتحرُّر من الاستعمار، لكن كلاً بطريقته.
هذه ثلة من الأيتام خرجوا من مرحلة الألم إلى الأمل، ومن وحشة اليتم إلى الأنس بما عند الله وجوائز السماء، ومن غياب السند والظهير إلى الاهتمام بالعلم أو العبادة أو النبوغ والاعتماد على الله ثم الذات، هؤلاء لم يكسرهم اليتم، لكنه زادهم صلابة.
تحولت محنة اليتم لديهم إلى منحة، بعضهم عاش فى ظلال أسرة طيبة مسحت على جراحاتهم، وبعضهم رزقه الله بأم صلبة قوية لعبت دور الأب والأم، وبعضهم وجد مجتمعاً حانياً عطوفاً رحيماً.
لقد ربط القرآن بين من «يدُع اليتم» و«من يُكذب بالدين»، وكأن من يدفع اليتيم ويغلظ عليه ولا يعطيه حقه أو يبخسه إياها أو يقصيه ويهمله، ستجد أن قلبه من القلوب المكذّبة بالدين. وهذا القرآن ينادى البشرية كلها «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ».
وهذا اليتيم الأعظم رسول الله، ينادى فى الكون كله «خير بيت فى المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيت يساء فيه إلى يتيم».
ويهتف فى الكون «أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهاتين». وكان على بن أبى طالب يقول: «الله الله فى الأيتام».
إن أزمة أمتنا العربية أنها أمة اليتم، فهناك 62 ألف يتيم سورى، وأكثر منهم فى العراق، وأقل منهم قليلاً فى ليبيا، ويماثلهم فى اليمن وأقل منهم فى مصر.
وكل هؤلاء الأيتام كانوا من الحصاد الدموى للصراعات السياسية والخلافات المذهبية واستباحة العرب لبعضهم البعض ونوبات التفجير والتكفير الفاجرة وفلسفات الإقصاء والديكتاتورية والاستبداد فى بلاد العرب.
أما الأطفال الذين يعيشون فى يُتم معنوى، والذين سُجن آباؤهم فى بلاد العرب أو هجروا من بلادهم قسراً، فهو ضعف هذه الأعداد.
قتلنا، وفجّرنا، وسجنا أنفسنا بأنفسنا، وأقصينا أنفسنا، ويتّمنا أولادنا، وهجرنا أسرنا، ورمّلنا زوجاتنا، وثكّلنا أمهاتنا، كل ذلك صنعناه أنفسنا نحن العرب، فمن يرحم غربة اليتيم والأرملة والثكلى، الذين تستقبلهم بلاد الغرب، ولا نريد استقبالهم فى بلادنا، رحماك يا رب بهؤلاء، فما أكثرهم فى بلاد العرب.