الوطن
حسن ابو طالب
ماذا وراء وثائق بنما؟
فى اليومين الماضيين انشغل العالم بما عُرف بوثائق بنما، وسوف يمتد هذا الانشغال لشهور طويلة، وغالباً لسنوات عدة، فالمعلومات الواردة فى هذه الوثائق، التى يزيد عددها على 11 مليون وثيقة، تغطى أعمالاً تجارية وأنشطة اقتصادية مشروعة وغير مشروعة فى مواقع مختلفة من العالم لمدة أربعة عقود هى عمر الشركة البنمية «موساك فونيسكا»، مصدر هذه الوثائق، وهى شركة محاماة تعمل فى مجال تأسيس وإدارة شركات متنوعة للعملاء من ذوى الوزن الثقيل على مستوى العالم بأسره، بالتعاون مع عدد من البنوك العالمية وشركات الاستثمار المشهورة دولياً. وطوال تلك الفترة الطويلة نسبياً نجحت الشركة فى أن تؤسس لنفسها سمعة وشهرة عالمية هى الآن فى مهب الريح بالمعنى الحقيقى للكلمة، شهرة استندت إلى قدرتها على إحاطة أعمالها والخدمات التى تقوم بها للعملاء ذوى النفوذ بقدر كبير من السرية؛ فلا الأنشطة كانت معروفة ولا أسماء أصحاب النفوذ كانت معروفة، وهى السرية التى تأكد أنها لم تعد مضمونة، وأن كل أنظمة الأمان المعلوماتى التى كانت تطبقها الشركة البنمية قد ضُربت فى الصميم.

ونظراً لما تضمّنته هذه الوثائق من معلومات تتعلق بغسيل أموال طائلة والتهرب من الضرائب لرموز دولية فى مجالات الرياضة والسياسة والفن والأنشطة الاقتصادية، فقد أعلنت عدة دول فتحها تحقيقات عن المعلومات التى وردت فى هذه الوثائق، وهى تحقيقات سوف تستمر لشهور وربما لسنوات، وهو ما يعنى أن العالم عليه أن ينتظر الكثير من المفاجآت والأخبار المثيرة فى المرحلة المقبلة.

ما حدث لما يُعرف بوثائق بنما يبدو على صعيد الشكل قريب الصلة بما حدث من قبل حين سرّب إدوارد سنودن، مؤسس موقع ويكليكس، وهو أحد محللى الاستخبارات الأمريكية السابقين، الكثير من الوثائق المتعلقة بتقارير فائقة السرية حول أعمال المخابرات الأمريكية فى مناطق مختلفة من العالم وأخرى عن السياسيين الأمريكيين وعلاقاتهم مع قادة العالم وجماعات حقوقية محلية ودولية، فضلاً عن مراسلات رسمية لوزارة الخارجية الأمريكية ومؤسسات حكومية أخرى. أما على صعيد المضمون فالأمر مختلف تماماً، فوثائق بنما هى تسريب لوثائق ومستندات تتعلق بأنشطة يملكها أفراد، أياً كانت رؤيتنا لهؤلاء الأشخاص، بالإضافة إلى مؤسسات وبنوك وشركات استثمار عالمية أخرى، وهى تدخل فى باب حقوق الملكية بوجه عام، وما يتعلق بها من حق حماية الخصوصية. وهى وثائق تملكها شركة محاماة دولية ولها فروع فى عدد كبير من دول العالم، وبالتالى فإن حجم الضرر يتجاوز المعلومات التى تبدو مثيرة لارتباطها بأشخاص مثيرين للجدل فى بلادهم وعبر العالم معاً. فنحن أمام حقائق دامغة بشأن إنشاء وإدارة أنشطة اقتصادية وتجارية فى أكثر من بلد، ويحوم الكثير من الشكوك حول قانونية هذه الأنشطة وفقاً للقوانين المحلية والدولية معاً. والمهم هنا أن هذه الأنشطة تمثل أساليب ليس فقط للتهرب من الضرائب أو غسل الأموال القذرة، بل تعطينا فكرة موثقة حول تداخل المصالح الكبير بين الأشخاص ذوى النفوذ وبنوك عالمية وشركات استثمار تختص بإدارة الأصول والمشروعات لحساب الغير، الأمر الذى يؤدى فى النهاية إلى حقيقتين مهمتين، الأولى اختفاء الأشخاص ذوى النفوذ من الصورة، وكأنهم غير موجودين أصلاً، وهو سلوك نقيض الشفافية وإتاحة المعلومات، والثانية أن تورط بعض البنوك العالمية فى مثل هذه الطريقة من إدارة أنشطة اقتصادية بمئات المليارات من الدولارات يؤكد أن كثيراً من المصارف الكبرى حول العالم تسهم مباشرة وعن قصد فى إفساد الاقتصاد الدولى ككل واقتصادات دول عديدة، وهو ما يضع مسئولية كبرى على الحكومات منفردة ومجتمعة لإعادة هيكلة الأنظمة المصرفية فيها لضبط حركة البنوك لديها مع مثل هذه الأنشطة المثيرة للجدل والمؤكد أنها جالبة للضرر.

ويظل السؤال المركزى هو كيف تم تسريب هذه الوثائق؟ ولدينا فى الصورة طرفان مسئولان عن نشر هذه الوثائق وهما صحيفة «زود دويتشه تسايتونج» الألمانية المشهورة بتحقيقاتها الاستقصائية، و«الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين» الذى يضم عدداً كبيراً من الصحفيين حول العالم البارعين فى هذا النوع من التحقيقات الذى يقترب من عمل النيابات العامة من حيـث البحث المتعمق عن خفايا الأحداث والاعتمـاد على الوثائق الأصلية وليس التكهنات أو التحليلات الافتراضية والنظرية، على أن يقدم نتـائج هذا البحث المتعمق إلى الرأى العام، الـذى بدوره يتلقى هذه المعلومات الموثقة ويـضغط على الحكومات لكى تتخذ الإجراءات المنـاسبة للحدث. وهما طرفان لا يستطيعان الوصول مباشرة إلى هذا الكم من الوثائق الخاضعة لنظم أمان إلكترونى فائقة الحماية إلا عبر إحدى وسيلتين؛ إما زرع مصدر داخل الشركة البنمية تولى تسريب هذه المعلومات عبر فترة زمنية طويلة وفق إجراءات تمنع اكتشافـه، وإما اختراق خارجى لمركز معلومات الشركة البنمية مصمم لصالح الصحيفة الألمانيـة. والمرجح، حسب المعلومات المتداولة، أن مصدراً داخلياً ما زال مجهولاً هو القائم بالتسريب، وأن عملية زرعه شارك فيها جهازان دوليان للاستخبارات، وأن عملية التسريب للوثائق استمرت حوالى عام كامل، وأن الصحيفة الألمانية كانت بمثابة الواجهة، وتم إشراك الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين فى تحليل المعلومات ونشرها لإضفاء المزيد من حق الحصول على المعلومات على العملية ككل، ولممارسة أكبر ضغط ممكن على شركة المحاماة البنمية لكى لا تلجأ إلى القضاء مستخدمة حق الخصوصية وحماية متعلقات الملكية ضد طرفى الاختراق وتسريب المعلومات.

وبالنسبة للشركة البنمية فقد حدث الضرر بالفعل. وبالنسبة للرأى العام العالمى فقد أصبح قوة ضغط لمعرفة الحقيقة دون رتوش بالنسبة للأشخاص والشركات والمصارف التى ثبت تورطها فى أفعال مشينة وغير قانونية. وبالنسبة لمن وردت أسماؤهم فى الوثائق فقد ارتفعت حدة المخاطر والتهديدات لأعمالهم وأنشطتهم التجارية المشكوك فى قانونيتها، فضلاً عن تأثر شهرة البعض سلباً لمن كانت سمعته وشهرته بيضاء ومحل احترام وحب من الرأى العام. وبالنسبة لما يُعرف بأنشطة «أوف شور» فقد ثبت أن كثيراً منها هى معول هدم وتخريب للاقتصاد الدولى والاقتصادات المحلية، وأخيراً فقد تلقت دول ما يُعرف بالملاذات الضريبية الآمنة، وفى مقدمتها بنما وسويسرا ودول الكاريبى ودول جزر المحيط الأطلنطى، ضربة قاصمة قد تتلوها ضربات أخرى، ولم يعد لديها سوى مخرج واحد، وهو أن تتحول إلى دول محترمة تراعى القانون وحقوق الشعوب فى ثرواتها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف