الوطن
محمد صلاح البدرى
سيدات الحطام!!
فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبعد الاجتياح الروسى تحديداً لألمانيا، كانت برلين تعانى من خراب كامل بالمعنى الحرفى للكلمة، كانت المنازل قد تهدمت، والمصانع قد انهارت، والأهم من ذلك كانت النفوس قد كُسرت!

وكان الحلفاء وقتها قد أصدروا قراراً يقضى بمنع كل الرجال الذين لم يتجاوزوا الخمسين عاماً من العمل، فلزم الرجال بيوتهم ولم يخرج للعمل سوى السيدات فقط، للحصول على ما يكفى لسد أفواه الأطفال الجائعة!

الصورة بأكملها كانت تشى بانهيار لا أمل فى إصلاحه أبداً، ولكن القدر كان يخبئ الكثير، ففى هذا الحين ظهرت لويزا شرودر!!

إنها إحدى الناشطات التى ابتدعت حملة جديدة وغريبة فى هذا التوقيت، وهى حملة شعبية لإزالة حطام وآثار الحرب فى برلين، ربما سخر البعض منها فى البداية، إلا أن الأمر قد نجح، وشارك فى هذه الحملة ما يقرب من عشرين ألف سيدة، مات منهن أربعة آلاف تحت الأنقاض أو من مشقة العمل، ولكنهن فى شهور قليلة استطعن جمع ما يقرب من ٧٥٠ ألف متر مكعب من الحطام فى صورة جبال خارج برلين، ومهدن الطريق لإعادة البناء.

ويحتفل الألمان فى سبتمبر من كل عام بذكرى «سيدات الحطام»، اللاتى أزلن آثار العدوان دون رجال، وبنفوس مكسورة من أثر الهزيمة. كانت إرادة السيدات الألمانيات أكثر قوة من جيوش الحلفاء مجتمعين، لقد بدأ الألمان فى إعادة بناء دولتهم بعدها لمدة عشر سنوات، ونجحوا بالفعل أن يصلوا إلى ما كانوا يبتغون من دولة عظمى متحضرة، ولكنهم لم يكن ليستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، لولا ما فعله هؤلاء السيدات فى الأشهر الأولى.

لم تعان بلادنا الحبيبة من انهيار اقتصادى واجتماعى مثل ما حدث فى السنوات القليلة الأخيرة، الكل يعرف هذا جيداً، ربما يحب البعض أن يستغله لسب الثورة، لا بأس، فقد تعودنا على هذا، بل ربما يصبح الأمر غريباً إذا لم يحدث! ولكن المشكلة تظل أعمق من هذا بكثير!

المشكلة أن الجميع يسعون لإعادة بناء الدولة، هذا جيد، ولكن دون أن يدركوا أن البناء السليم يحتاج أولاً إلى إزالة الأنقاض. لا شك أن مهمة البناء عسيرة، ولكنها ستكون فى عداد المستحيلات إن بدأنا فى البناء دون أن نمهد الأرض ونزيل الأنقاض التى لوثت تراب هذا الوادى الطيب، فإذا كان البعض يبنى ويشيد، وأعنى بهذا سيادة الرئيس تحديداً، وقليل ممن رحم ربى، فالبعض الآخر يهدم كل ما يفعل بممارسات أقل ما يقال عنها إنها غير مسئولة، ومن أجهزة تنفيذية يفترض فيها المسئولية، ولا يسمح فيها بالأخطاء، والتصريحات التى يخرج علينا بها السادة الوزراء لا تعنى على الإطلاق أنهم يخططون لإصلاح من أى نوع.

لسنا بصدد سرد التخبط فى تصريحات الداخلية بشأن مقتل ذلك السائح الإيطالى، ولا ذكر تصرفات السيد وزير الصحة مع نقابة الأطباء، ولن نحكى عما يحدث فى قطاع السياحة من أخطاء لم يكن أولها ما حدث فى معرض برلين الدولى من تصريحات وزير السياحة عن سوء حالة العاملين بهذا القطاع، ولن يصبح آخرها فى الأغلب ذلك الخطأ الإملائى فى معرض فيينا الدولى للسياحة، الذى حول العبارة الترويجية المكتوبة على المنشورات الدعائية من «زوروا مصر لأنها ملجأكم» إلى «زوروا مصر عليكم اللعنة»!

كلها أخطاء صغيرة تحدث كنتيجة طبيعية لتراكم حطام الأعوام السابقة من تخبط داخل المنظومة الحكومية بأكملها.

سيدى الرئيس.. نرجوك أن تفعل مثلما فعلت سيدات الحطام أولاً، نرجوك أن تزيل أكوام الفساد الإدارى الذى ينتشر فى الهيكل الحكومى بالكامل، أن نتجنب تلك الأخطاء الصغيرة التى تفسد المشهد الأخير كاملاً.

سيدى الرئيس.. لسنا أقل من سيدات الحطام، ولن تبنى إلا على أرض صالحة ممهدة، ولن يصعد البناء إلا إذا أزلت الحطام.. كل الحطام!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف