د/ شوقى علام
السياسة الشرعيَّة وفقه الدولة ( 12) الحرية
الحرية مصطلح شائع يكثر وروده فى مواد المواثيق والدساتير فى العصر الحديث، فضلا عن تناوله المستمر فى معظم المذاهب والثقافات، بيد أن البحث فى استكشاف مضامينه وأطره يتباين كثيرًا وفق هوية ورؤية كل مذهب وثقافته، فهذا المصطلح تتجاذبه معان عدة تدور فى أغلبها حول بيان ماهية الحرية وسماتها وحدودها وقيودها وعلاقاتها المتنوعة وإبراز تحويل المقاصد والآثار إلى عمليات تنظيمية إجرائية تسهم بشكل فعال فى النهوض بالمجتمعات والدول نحو الاستقرار والازدهار والحضارة، وفق أطر سياسية وفلسفية. ويمتاز الإسلام الحنيف بتناول هذا المبدأ وفق رؤية متوازنة وتناسق حكيم، حيث قرر للإنسان حق الاختيار وحرية الإرادة بأن يختار لنفسه ما يشاء مع تحمل مسؤولية هذا الاختيار ومآلاته، كما أنه أقام الحقوق وبيَّن الواجبات، قصدًا إلى تجلية علاقات الإنسان مع نفسه ومع خالقه سبحانه وتعالى ومع أخيه من بنى الإنسان.
وفى ذلك إعمالٌ لطبيعة الإنسان وفطرته، حيث إن الله تعالى قد كرَّم الإنسان وشرَّفه بالعقل الذى عليه مدار الاختيار والحرية، وجعل التكليف يدور مع كون هذا المكلف مريدًا حرًّا، وهذه حقيقة نراها فى نصوص الوحى كثيرًا، ومنها قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» [الكهف: 29]، وفيه استعمل الفعلان: «يؤمن ويكفر» للمستقبل، لتقرير حرية المكلف فى اختيار وفعل أحد الأمرين ولو على وجه الاستمرار ما دام يعى مسئولية هذا الاختيار وآثاره، خاصة بعد ظهور الحق وتثبيت دعائمه وأصوله، مما يعنى عدم قبول أى نوع من المؤثرات المادية أو المعنوية التى تحول بين الإنسان وحريته، ولو كان فى قضية الاعتقاد، فقد أرشد الله تعالى نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى التأنى فى حرصه الشديد على إيمان قومه بكل وسيلة صالحة، بقوله الكريم: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» [يونس: 99]، وفيه تأكيد على ضرورة مراعاة سنة الله تعالى التى فطر الناس عليها من اختلاف المعارف وتنوع المشارب وتفاوت المدارك العقلية والحسية، قال تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»[هود: 118- 119].
وبذلك يتقرر أن الحرية تقوم على الاختيار والترجيح بين البدائل المتعددة المختلفة، ثم إن الاختيار والترجيح يختلفان من شخص لآخر حسب مداركه ومعارفه ومقتضيات بيئته، وهو دليلٌ باهرٌ على بديع صنع الله تعالى، كما أنه برهان ظاهر يؤكد صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، فقد أتاح حرية إبداء الرأى وحثَّ على بذل الجهد فى إعمال العقل والحس فى استثمار أدلة الوحى من خلال آليات الاجتهاد، الذى هو فريضة شرعية.
ولم يحكم المسلمون يومًا بغلق باب الاجتهاد والتفكير فى أى مجال من المجالات ما دامت شروط الاجتهاد قد توافرت فى المجتهد. ولقد أناط التكليف الأوامر والنواهى الشرعيَّة بالحرية، بمعنى توقف الثواب والعقاب على وجودها وتحقق شروطها تحققا تامًّا كاملًا، فضلا عن إتاحة الاختيار بين الفعل والترك فى الأحكام التكليفية.
كما أنه حثَّ على إبداء الرأي، بل طالب به طلبا جازمًا مما جعله ليس مجرد حق، وإنما هو واجب يثاب على فعله ويعاقب على تركه والتهاون فيه وفى أسبابه وفى وسائله، يقول الله تعالى: ]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر: 2- 3]، ولا يخفى أن إبداء الرأى عن طريق النصح مظهر من التواصى بالحق، وهو يُؤدِّى إلى تخليص الأفكار والممارسات والإجراءات سواء الصادرة عن الفرد أو مؤسسات الدولة من الفساد والتردى فى مزالق الركود والجمود، وقد أرشد إلى هذه المعانى قول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث يمثل أحد أرباع الإسلام: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». ومن ناحية الحرية الاقتصادية قرر الإسلام أن ملكية المال هى لله تعالى وأن الإنسان مستخلف فيه، مما يجعل الإنسان حرًّا بحق لا عبدًا للمال.
ولا ريب فإن الحرية مقصد من مقاصد الإسلام العليا وهى مصدر تحضر الإنسان دينيًا وحضاريًّا، وفيما ذكرناه من دلالات صريحة وضمنية تؤيد صحَّة تضمين الحريات فى الدستور الذى هو وثيقة التعريف للدولة، مع النص على وجوب احترامها والمبايعة عليها واشتراطها فى العقد الاجتماعى الذى تقوم عليه العلاقات بين المؤسسات والمجتمع فى الدولة، بما يساعد على استمرار التوازن الصحيح بين مبدأ الحقوق ومبدأ الواجبات فى شخصية المجتمع (ينظر على سبيل المثال: مواد الباب الثالث من الدستور المصرى سنة 2014م بشأن الحقوق والحريات والواجبات العامة)، ومن ثَمّ يضمن عدم اندثار روح التحرر المجتمعية التى ترفض أى إقصاء أو احتقار أو تهميش، مما يدفع المجتمع نحو التفاعل الإيجابى فى المحافظة على هويته ووحدته وتماسك طبقاته وأفراده.